الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن آثار الغفلة: أنها تقطع المرء عن ربه وعن آخرته، ومثل الغافل عن التزود من الباقيات الصالحات كمثل رجل أدخلوه قصرًا يحوي كنوزًا من ذهب وفضة، وأمهلوه ساعة ليجمع ما استطاع من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
عباد الله: إن البلايا والمصائب تتفاوت درجاتها؛ فداء الجسد قد يفوِّت التمتع بالطعام والشراب والشهوة ويحرم منها، ويُقعِد الإنسان عن طلب معاشه ويجعله عالة على غيره؛ لكن الأعظم من أدواء الجسد هو مرض القلب؛ فإن القلب المريض منقطع عن الله -تعالى- وعن الآخرة؛ فمريض الجسد قد يدفعه مرضه أن يتقرب من ربه، بعكس مريض القلب، ومن أعظم أمراض القلوب: مرض الغفلة الذي يقطع العبد عما خُلق من أجله، فيخرج من الدنيا بغير زاد يبلغه الجنة! تلك هي التعاسة في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: لقد أفزعني ما أرى من حال نفسي ومن حال الناس، أحقًا ما أرى! إني أرى من الناس من يحيا حياة من لا يرجو ولا يخشى موتًا ولا نشورًا! أرى من يجمع ويكدس ويدخر لسنوات وسنوات كأنه مخلد في الدنيا، وما جمع عشر ذلك لآخرته! أرى وترون من التفوا حول فيلم أو مسرحية، فتسمع الضحك الشديد والاندماج الكامل والتمايل الغافل؛ كأنهم لا يعلمون أن ملك الموت قد يأتيهم في لحظتهم تلك فينتزعهم مما هم فيه!
فكم نرى من يسمع المواعظ المخلصة المؤثرة؛ فلا يتذكر ولا يتأثر، يُذكَّر بالموت فلا يتذكر، يُخوَّف بالحساب فلا يخشع! أرى وترون، وترون وأرى... وعندما أرى ذلك أكاد أصرخ: أوَلا يعلمون أنهم خُلقوا لغير هذا؟! أوَلا يدركون أنهم ميتون ومقبورون ثم مبعوثون ومجموعون وأمام الجليل العظيم الكبير الجبار موقوفون ومحاسبون!... وبعد لأيٍ أدركت؛ بلى إنهم يعلمون بالموت وما بعده؛ فإنهم مسلمون، ولكنها الغفلة، الغفلة التي تكسو القلوب وتغشي الأعين وتمد الآمال وتسقي التسويف وتُنسي الآخرة وتدفع إلى اللهو واللعب والانشغال بالدنيا... فهم يعلمون ولكنهم -رغم علمهم- "غافلون".
تكر الأيام وتفر الليالي وتضيع الأعمار وتنقضي الآجال وتنفذ المهلة ويقترب الموت ويحين وقت الخروج من الدنيا، والمرء ما أعد للقاء ربه، بل لهى وسهى وغفل فاستنزفت غفلته عمره كله! فالغفلة نزيف العمر.
أيها المؤمنون: لقد كان أخشى ما يخشاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا هو أن تلهينا الدنيا فنقع في داء الغفلة عن الآخرة؛ فعن عمرو بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها؛ فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافته صلاة الصبح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، وقال: "أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة، وأنه جاء بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم"(متفق عليه).
وما خافه علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حذرنا منه رب العزة -سبحانه وتعالى- قائلًا: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف: 205]، بل وحذرنا من مجرد أن نتبع الغافلين فقال -عز من قائل-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[الكهف: 28]، وأنذرنا -تعالى- أن يفاجئنا اليوم الآخر ونحن غافلون فنتحسر ونتندم: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[مريم: 39]، فيوم القيامة على الغافل يوم حسرة وندامة، ثم أخبرنا -عز وجل- بجزاء الغافلين حين قال: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس: 7-8].
ومن خطورة الغفلة: أن الذي يقع فيها قد لا يفيق منها إلا عند الحشرجة وقد نزل به الموت، يقول -تعالى-: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق: 19-22]، ومن الناس من لا يفيق من غفلته إلا وهو يدفن في قبره -والعياذ بالله- قال -عز وجل-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)[التكاثر: 1-2]، ومن الناس من لا يفيق إلا يوم القيامة وعندها يدعون بالويل والثبور: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)[الأنبياء: 97].
بل إن منهم من لا يفيق من غفلته إلا وهو يعذَّب في جهنم -والعياذ بالله- يقول -عز من قائل-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37].
ومن آثار الغفلة المدمرة: أنها تقطع المرء عن ربه وعن آخرته، ومثل الغافل عن التزود من الباقيات الصالحات كمثل رجل أدخلوه قصرًا يحوي كنوزًا من ذهب وفضة، وأمهلوه ساعة ليجمع ما استطاع من الأموال، فلما دخل القصر انبهر بروعة الستائر والأثاث فأخذ يقلب عينيه فيها، ثم وجد مائدة زاخرة بما لذ وطاب من الطعام فقعد يأكل ويشرب في نهم حتى ثقل جسده، فإذا هو بفراش وثير ناعم أنيق فألقى بجسده عليه فراح في نوم عميق، ولم يستيقظ من نومه ذلك إلا على صوت حراس القصر وهم يأخذون بتلابيبه ويسحبونه خارج القصر قائلين لهم: لقد انتهت الساعة التي وهبناك إياها، فصار يصرخ: أمهلوني دقيقة أجمع ذهبًا وفضة كي لا أخرج خالي اليدين، وهم يجيبونه: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[النحل: 61].
فالقصر هو الدنيا، والساعة التي وُهب إياها هي عمره، والذهب والفضة هي الأعمال الصالحة، والحراس هم ملك الموت وأعوانه... وصدق من قال:
تزود من معاشك للمـعاد | وقم لله واعمل خير زاد |
ولا تجمع من الدنيا كثــيرًا | فإن الـمــال يجمع للنفاد |
أترضى أن تكون رفيق قوم | لهم زاد وأنت بغير زاد؟ |
ومن آثارها: أنها مفتاح كل شر؛ فإنه لا يُقْدِم على المعاصي إلا الغافل عن عقوباتها في الدنيا والآخرة، وإنه لا ينام عن صلاة الفجر متعمدًا إلا الغافل عن عظيم فضلها وأجرها، وإنه لا يزهد في السنن والنوافل والتطوعات؛ إلا الغافل عن طلب الدرجات العلى من الجنة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: قد علَّمنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله -عز وجل-"(مسلم)، وهاك بعض دواءات الغفلة وعلاجاتها:
الدواء الأول: قصر الأمل: بأن نوقن أننا ذاهبون راحلون عن قريب إلى الآخرة، وما دام الأمر كذلك فحسبنا منها قوت، فعن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس"(مسلم)؛ فمن قصر أمله تبددت غفلته أو كادت أن تتبدد.
الدواء الثاني: عقد المقارنة بين متاع الدنيا ونعيم الآخرة؛ فمن قارن الدينا احتقر متاع وزهد فيه، وقد عقد لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقارنة سريعة بينهما حين قال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم؛ فلينظر بم ترجع؟"(مسلم)، فإن أخطر أسباب الغفلة هو زخرف الدنيا وبهجتها، وقد أصدر القرآن حكمه عليها قائلًا: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185]، أما عن نتيجة المقارنة السابقة فهي محسومة لصالح نعيم الآخرة: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة: 38].
الدواء الثالث: أن ندرك أننا هنا لنمتحن: نعم جعلنا الله في هذه الدنيا وسط ملذاتها وشهواتها لكي يمتحننا ويختبرنا، فهو -عز وجل- ناظر إلينا يراقبنا ويحصي علينا ما نعمل؛ فعن أبى سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون"(مسلم)، وإن من أشد البلايا أن يكون المرء ممتحنًا وهو لا يدري أنه في امتحان! أما من أدرك ذلك فإنه يُحسِن العمل، وتذهب عنه الغفلة.
الدواء الرابع: أن نجعل الآخرة همنا: فيكفينا الله همَّ الدنيا؛ فلا ننشغل ونغفل بها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"(ابن ماجه)؛ فمن حمل هَمَّ أُخراه أمِنَ الغفلة بدنياه.
الدواء الخامس: زيارة القبور. وهو دواء عملي نافع ناجع لإزالة الغفلة، خاصة إذا راقبت ميتًا وهو يُنزل في القبر ويوضع في التراب ويغلق عليه القبر ثم يترك وحيدًا... ولقد قالها -صلى الله عليه وسلم-: "فزوروا القبور فإنها تذكر الموت"(مسلم)، وكذا عيادة المريض واتباع الجنائز: قال -صلى الله عليه وسلم-: "عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة"(ابن حبان)، وأنى لمن يعاين الموت ويعايش الآخرة أن تغره دنياه.
الدواء السادس: تذكر تندم الآخرة وحسراتها على فعل المنكرات وترك الباقيات. يقول معاذ بن جبل: "ليس تحسر أهل الجنة إلا عن ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها"(الوابل الصيب)، ويوم القيامة تطول حسرات الغافلين، قال : "ما جلس قوم مجلسًا فلم يذكروا الله إلا كان عليهم ترة، وما من رجل مشى طريقًا فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة"(رواه أحمد)، ومعنى "ترة": حسرة وندامة.
فاللهم أيقظنا من غفلاتنا نتدارك ما فات من أعمارنا...
وصل اللهم على محمد...