الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن صور الفرح المحمود؛ الفرح ببلوغ مواسم الطاعات، كالفرح ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه، وكالفرح بحج بيت الله الحرام، وغير ذلك من الطاعات والقربات.. وقد فرح أبو بكر الصديق بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بكى من الفرح...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة الغراء تنظم للإنسان شؤون الحياة بكل تفاصيلها وجعلت لكل شيء ضوابط وحدوداً، ومنعت من تجاوزها والتلاعب بها؛ ومن الأمور التي أوصت به وأرشدت أهل الإيمان إلى أسلوب التعامل معه الفرح؛ لأنه جبلة إنسانية، لا يستطيع المرء أن ينعم بدونه، ولا لسبيل له لتركه، وقد عده علم النفس من الانفعالات الطبيعية للنفس البشرية؛ كالحزن والفرح والمحبة والبغض، وغير ذلك من الصفات التي فُطِرَ عليها على الإنسان.
ولأن الناس يعيشون في دار مملوءة بالأحزان والأكدار أصبح الفرح ضرورة ملحة، وهدف منشود، وغاية مبتغاة، وكل إنسان على هذه الأرض يسعى إلى فرح قلبه وزوال حزنه، ولكن القليل من يصلون إلى الفرح الحقيقي، ويحصلون على السعادة العظمى، وينجو من الآلام والأتراح، والمـتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يجد حقيقة الفرح وصوروه ومظاهره؛ كما يلي:
فأما القسم الأول فهو: الفرح المشروع؛ وهو الفرح المتعلق بحصول الخير سواء كان هذا الخير في الدين أو الدنيا أو الآخرة؛ وإن للفرح المحمود صورًا ومظاهر عديدة لا تكاد تنحصر، ومنها ما يلي:
الفرح بالاهتداء إلى الإسلام واتباع خير الأنام -عليه الصلاة والسلام- وأن الله أنقذنا بذلك من الخسارة والخلود في دار البوار، وذاك من المقصود في قول الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58]، قال أبو سعيد الخدري وابن عباس -رضي الله عنهما-: "فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام"(تفسير القرطبي).
وقد فرح أبو بكر الصديق بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بكى من الفرح؛ فلما أُذِن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخروج قال أبو بكر: فالصحبة يا رسول الله، قال: "نعم الصحبة "، تقول عائشة: "فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح"(مسند إسحاق بن راهويه، وأصله في البخاري).
وفرح أنس لما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأحد الناس: "أنت مع من أحببت"، يقول أنس: فما فرحنا بشيء، فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنت مع من أحببت" قال أنس: "فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم"(متفق عليه).
ومن مظاهر الفرح المحمود وصوره؛ الفرح بنصر الله لأوليائه المؤمنين وتحقيق التمكين لهم، وهزيمة أعداء الدين، يقول الله -تعالى-: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله * ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)[الروم: 4-5]، وبهذا فرح سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، فعن جابر بن عبد الله قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أدري بأيهما أنا أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"(الحاكم).
ومن صوره: الفرح بنيل الشهادة في سبيل الله، قال -تعالى-: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[آل عمران: 169-170]، ولا يُذكر الفرح بالشهادة إلا ويتبادر إلى الأذهان صورة حرام ملحان -رضي الله عنه-، فعن أنس بن مالك قال: "لما طُعِن حرام بن ملحان... قال: بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت ورب الكعبة"(متفق عليه).
ومن صور الفرح المحمود: الفرح ببلوغ مواسم الطاعات، كالفرح ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه، وكالفرح بحج بيت الله الحرام، وغير ذلك من الطاعات والقربات، والفرح بالأعمال الصالحات والحزن للوقوع في السيئات من علامات الإيمان؛ فعن عمر بن الخطاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن"(الترمذي).
هذا، وقد يفرح المؤمن بالبلاء يصيبه؛ إذ هو -عنده- من علامات الصالحين لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"(البزار)، فهذا إبراهيم بن نوح الموصلي يروي فيقول: "رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة، وكان صائمًا، فقال: عشوني، فقال: ما عندنا من شيء نعشيك، قال: فما لكم جلوسًا في الظلمة؟ قالوا: ما عندنا زيت نسرج به، فجلس يبكي من الفرح، فقال: يا إلهي، مثلي يُترك بلا عشاء ولا سراج بأي يد كانت مني إليك؟ فما زال يبكي إلى الصبح"(شعب الإيمان للبيهقي).
أما القسم الثاني فهو: الفرح المذموم الممنوع؛ وهو الفرح بما يسخط الله، أو بما يضر صاحبه في الدنيا وفي الآخرة، وكما أن للفرح المحمود صورًا عديدة، كذلك؛ فإن للفرح المذموم أشكالًا متنوعة، ومنها:
الفرح بكثرة المال الذي يقود صاحبه إلى الفجور والإعراض عن طاعة العزيز الغفور، تمامًا كما حدث لقارون الذي حكى القرآن عنه قائلًا: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)[القصص: 76]، لكن ماله غره حتى أنساه ربه؛ فقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، فكانت هذه عاقبته: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[القصص: 81]، وكانت البداية فرحه المذموم بالمال.
أو كصاحب الجنتين الذي أطغاه فرحه بما يملك، فقال: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)[الكهف: 35-36]! ولعل القرآن كان يقصد هذا النوع من الفرح المذموم حين قال: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الحديد: 23]، وهو ما صاغه الشاعر نظمًا حين قال:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني | ولا جازع عن صرفه المتقلب |
ومن أبشع صور الفرح المذموم: الفرح بمعصية الله؛ كالفرح بإزهاق الأرواح وسلب الأموال بغير حق، أو الفرح بإشاعة الفاحشة، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النور: 19].
وأما القسم الثالث فهو: الفرح المباح؛ وهو الذي لا يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه... ولكل من هذه الأقسام الثلاثة صور وأشكال وأنواع ودرجات، ومن ذلك ما يلي:
الفرح بنيل شيء حلال من متاع الدنيا كاقتناء سيارة حديثة، أو الزواج من امرأة حسناء، أو نجابة الأولاد وتفوقهم، وهذا الفرح الأخير قد فرحه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟" فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هي النخلة"، قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: "لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا"(متفق عليه).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إن الفرح من صفات الله -تعالى- ولكنه ليس كفرح المخلوقين، وإن المؤمن الحق ليبحث عما يفرح الله -تعالى- به فيفعله، والله -عز وجل- يفرح بأعمال عديدة منها:
توبة العبد وإنابته؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم، سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة"(متفق عليه).
ويفرح الله -تعالى- بعبده الذي يترك شهواته ولذاته من أجله، فيقدِّم مراد الله على هوى نفسه، فعن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة يحبهم الله -عز وجل-، يضحك إليهم ويستبشر بهم، الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله -عز وجل-، فإما أن يُقتل وإما أن ينصره الله -عز وجل- ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي كيف صبر لي نفسه، والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم من الليل فيذر شهوته فيذكرني ويناجيني ولو شاء لرقد، والذي يكون في سفر وكان معه ركب فسهروا ونصبوا ثم هجعوا، فقام في السحر في سراء أو ضراء"(البيهقي في الأسماء والصفات).
فاللهم هبنا العمل بما يرضيك عنا فتفرح وتستبشر بنا وتضحك إلينا، واجعلنا ممن أعظم فرحهم بالإيمان والتقوى، وفرِّح قلوبنا بالجنة يا رب العالمين.
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم...