البحث

عبارات مقترحة:

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

من خاف أدلج

العربية

المؤلف محمود بن أحمد الدوسري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أهمية الخوف من الله تعالى وثمراته .
  2. نماذج من خشية النبي صلى الله عليه وسلم لربه .
  3. صور من حياة الخائفين من ربهم .
  4. اختلاف الناس في درجات الخوف. .

اقتباس

ومَنْ تأمَّل أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- ومَنْ بعدهم من الصالحين؛ وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جَمَعْنا بين التقصير والتفريط والأمن. فكلما ازداد علم العبد بربه -سبحانه- وبنفسه؛ ازداد خوفه وعملُه، وكلما ازداد جهلُه بربِّه وبنفسه؛ ازداد أمنه وتفريطه.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: الخوف من الله -تعالى- واجب على كل مؤمن ومؤمنة؛ كما قال -سبحانه-: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]. يُعرَّف الخوف: بأنه تألُّم القلب واحتراقُه بسبب توقُّع مكروهٍ في المستقبل، وهو الذي يكفُّ الجوارحَ عن المعاصي، ويُقيِّدها بالطاعات.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا، وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي، وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي، فَامْتَحَشْتُ -أي: احترقتُ-، فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا، ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ. فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللهُ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ"(رواه البخاري ومسلم).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ -أي: سار من أول الليل-، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ"(رواه الترمذي). والمعنى: أنَّ مَنْ خاف اللهَ -تعالى- ألْزَمَه الخوفُ السلوكَ إلى الآخرة، والمبادرةَ بالأعمال الصالحة؛ خوفاً من القواطع والعوائق.

قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "مَنْ خاف اللهَ -تعالى- دلَّه الخوفُ على كلِّ خير".

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إنَّ المؤمنين قوم ذلَّت منهم -واللهِ- الأسماعُ والأبصارُ والجوارح، حتى يحسبَهم الجاهلُ مرضى، وإنهم -واللهِ- الأصحاء، ولكنْ دخلَهم من الخوف ما لم يدخل غيرَهم، ومنَعَهم من الدنيا عِلمُهم بالآخرة، فقالوا: الحمد لله الذي أذهبَ عنَّا الحَزَن، أما -واللهِ- ما أحزَنَهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه مَنْ لم يتعزَّ بعزاء الله؛ تقطَّعت نفسُه على الدنيا حسرات".

عباد الله: نعلم جميعاً أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان أشدَّ الناس خشيةً لله -تعالى-، ومن نماذج خوفه -صلى الله عليه وسلم- من ربِّه -تبارك وتعالى-:

1- عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ". قَالَ أنسٌ -رضي الله عنه-: فغَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ. (والخنين: هو البكاء مع غُنَّة بانتشار الصوت من الأنف)(رواه الترمذي، والبخاري مختصراً).

ومعنى الحديث: لو علمتم ما أعلمه من عظمة الله -تعالى- وانتقامه ممن يعصيه؛ لطال بكاؤكم وحُزنكم، وخوفكم مما ينتظركم، ولَمَا ضحكتم إلاَّ قليلاً.

2- وعَنْ عبد الله بن الشخِّير -رضي الله عنه- قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى؛ مِنَ الْبُكَاءِ -صلى الله عليه وسلم-"(رواه أبو داود).

والأزيز: هو الخنين من الجوف، وهو صوت البكاء، وهو أن يجيشَ جوفُه ويغلي بالبكاء، وفي الحديث دليل على أن البكاء لا يُبطل الصلاة. واستُدل على جواز البكاء في الصلاة، بقوله -تعالى-: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)[مريم:58].

والخوف من الله -تعالى- ليس قاصراً على الأنبياء والبشر؛ فقد قال الله -تعالى- في خوف الملائكة منه -سبحانه-: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل:50]. وقال أيضاً: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)[الرعد:13].

ومَنْ تأمَّل أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- ومَنْ بعدهم من الصالحين؛ وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جَمَعْنا بين التقصير والتفريط والأمن.

فكلما ازداد علم العبد بربه -سبحانه- وبنفسه؛ ازداد خوفه وعملُه، وكلما ازداد جهلُه بربِّه وبنفسه؛ ازداد أمنه وتفريطه.

فهذا الصديق -رضي الله عنه- يقول: "وددتُ أني شعرةٌ في جنب عبدٍ مؤمن". وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عودٌ من خشية الله -عز وجل-.

وهذا الفاروق عمر -رضي الله عنه- قرأ سورةَ الطور حتى بلغ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)[الطور: 7]، فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادُوه. وقال لابنه -وهو يموت-: "ويحك! ضع خدي على الأرض، عساه يرحمني، ثم قال: ويلَ أُمِّي إنْ لم يغفرْ لي" ثلاثاً، ثم قضى.

وكان يمر بالآية في وِرده بالليل تُخِيفُه، فيبقى في البيت أياماً يُعاد يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطَّان أسودان؛ من كثرة البكاء.

وقال له ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: "لقد مَصَّرَ اللهُ بك الأمصار، وفَتَحَ بك الفتوح، وفعل، فقال: وددت أنِّي أنجو، لا أجر، ولا وِزْر".

وهذا عثمان ذو النورين -رضي الله عنه-: كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يَبَلَّ لحيته، قال: لو أنني بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيتهما أصير؛ لاخترت أنْ أكون رماداً، قبل أنْ أعلمَ إلى أيتهما أصير.

وأمَّا عليٌّ -رضي الله عنه-؛ فقد سلَّم من صلاة الفجر وقد علته كآبة، وهو يقلِّب يده ويقول: "لقد رأيتُ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم أر اليوم شيئاً يُشبههم، لقد كانوا يصبحون شُعثاً صُفْراً غُبْراً، بين أعينهم أمثال رُكَبِ المِعزَى، قد باتوا لله سُجَّداً وقياماً يتلون كتاب الله، يُراوِحون بين جِباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادُوا كما تميد الشجرة في يوم الريح، وهملت أعينُهم بالدموع حتى تَبل ثيابهم، واللهِ لَكَأنَّ القومَ باتوا غافلين". هكذا كان خوفهم من الله -تعالى-، رغم كثرة عبادتهم وإخلاصهم لله -تعالى-.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "ابكوا، فإنْ لم تبكوا فتباكوا، فو الذي نفسي بيده، لو يعلم العلمَ أحدُكم؛ لَصَرخَ حتى ينقطع صوتُه، وصلَّى حتى ينكسر صُلبُه". وكان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسيرٌ أُمِرَ بقطع رقبته، وإذا ذُكِرت النارُ؛ فكأنما لم تُخلَقْ إلاَّ له.

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

إخوتي الكرام: إنَّ الناس يختلفون في درجة الخوف من الله -تعالى-، وقد ذكر ابن رجب -رحمه الله- درجات الخوف، فقال: "القدر الواجب من الخوف: ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم. فإنْ زاد على ذلك؛ بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات؛ كان ذلك فضلاً محموداً. فإنْ تزايد على ذلك؛ بأنْ أوْرَثَ مرضاً أو موتاً أو هَمًّا لازِماً، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل؛ لم يكن محموداً".

فالخلاصة: أن الخوف الواجب يدفع صاحِبَه لفعل الواجبات، وترك المحرمات. والخوف المستحب: يدفع صاحِبَه للقيام بنوافل الطاعات، وترك المكروهات. والخوف المذموم: يقعد بصاحبِه عن العمل المحبوب لله -تعالى-.

قال بعضهم: الخوف له قصور، وله إفراط، وله اعتدال، والمحمود منه هو الاعتدال والوسط.

فالخوف القاصر: هو الذي يجري مجرى رقَّة النساء، يخطر بالبال عند سماع آيةٍ من القرآن، فيُورث البكاءَ، وتفيض الدموع، وكذلك عند مشاهدة سببٍ هائل، فإذا غاب ذلك السَّبَبُ عن الحِسِّ؛ رَجَعَ القلبُ إلى الفَضْلة، فهذا خوفٌ قاصر، قليلُ الجدوى، ضعيفُ النفع، وهذا حال أكثر الناس اليوم إلاَّ مَنْ رحم ربك؛ لأنهم يسمعون المواعظَ والخُطبَ فيتأثرون آنياً، ثم إذا خرجوا من المسجد رجعوا إلى ما كانوا عليه. لذا قال بعضهم: "ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه؛ بل مَنْ يترك ما يخاف أن يُعاقب عليه".

وأمَّا الخوف المُفْرِط: فهو الذي يَقوَى ويُجاوِزُ حدَّ الاعتدال؛ حتى يُخْرِجَ إلى اليأس والقنوط، وهو مذموم أيضاً؛ لأنه يمنع من العمل.

وأمَّا خوف الاعتدال: فهو الذي يَكُفُّ الجوارحَ عن المعاصي، ويُقَيِّدها بالطاعات. وما لم يُؤثِّرْ في الجوارح؛ فهو حديث نفسٍ، وحركةُ خاطرٍ، لا يستحق أنْ يُسمَّى خوفاً.

وصلوا وسلموا...