الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن مصيبتكم ومصيبتنا في حادث الغدر والإرهاب الذي استهدف إخواننا المسلمين، وسفَكَ دماءَ المصلينَ، وروَّع أمن الآمنين، وانتهك حرمة بيوت الله، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله، إنها مصيبة عظمى، وفاجعة كبرى، نحتسبها عند الله، وما عند الله خير وأبقى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، أحسن الله عزاء إخوتنا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له البقاء والثناء، وبيده المقادير والقضاء، يدبِّر الأمرَ إلى الأرض من السماء، يفعل ما يشاء وما تشاءون إلا أن يشاء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقينُ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].
معاشر المسلمين: لقد أسبَغ اللهُ علينا من النعم ما لا يُحصى، وأسبَل علينا من العطاء ما لا يُستقصى، وأكرَمَنا بالأمن والرخاء، والاستقرار والعطاء، وأبعَدَ عنا قلاقلَ الفتن والبلاء، ومصائب المحن والشقاء، بفضل الله ثم بتَمَسُّكِنا بعقيدتنا، وجهود ولاة أمرنا وعلمائنا، قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 26].
عباد الله: الأمنُ أهمُّ مقومات حياة الإنسان، وبه يحصل الاستقرارُ والاطمئنانُ، الأمنُ الهدفُ الذي تنشده المجتمعات، وتبذُلُ فيه كلَّ الوسائل والطاقات، الأمن نعمة لا يعرف قدرَه وعظيم أهميته إلا مَنِ اكتوى بنارِ فَقْدِه، الأمن نعمة لا يهنأ العيشُ بدونه، ولا يقِرُّ قرارٌ عند فَقْدِه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعافًى في جسده، عنده قوتُ يومه فكأنما حِيزَتْ له الدنيا"(رواه الترمذي وحَسَّنَه).
إن الأمن على النفس والعِرْض والمال نعمة من أعظم النِّعَمِ، يحتاج إليها كلُّ إنسان، في كل زمان ومكان، حتى يشعر بالراحة والاطمئنان، أما إذا شبَّت الفتنُ، واضطربت الأحوال، وخيف على النفس والعِرْض والمال، وفزع الناس من خطب الأهوال وزاغت الأبصار وبلغت القلوبُ الحناجرَ نَدِمَ الإنسانُ ولاتَ مندم، وأَسِفَ على ما فرَّط فيه من الأمن والنعم، وانظروا بالعيان إلى بعض الأمم والبلدان، وقد كانوا بخير وفي اطمئنان، فلما حلَّت فيهم الفتنُ اشتعلت فيهم النيرانُ، وضاقت عليهم الأوطانُ، وتبدَّل الحالُ ولم يهنأ أحدٌ براحة بال، إن في ذلك لعبرة وعظة، لكل مَنْ في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وقد فصَّل القرآنُ ذلك، وضرَب أروعَ الأمثلةِ فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النَّحْلِ: 112]، وانظروا كيف أنعم الله على قوم وأغدق عليهم من خزائنه، فأعرضوا فحل بهم البلاء، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُّوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سَبَأٍ: 15-19].
معاشِرَ المسلمينَ: إن الفوضى لا تحقِّق غايةً إلا الفتن والبلاء، وليس وراءها إلا المصائب والمحن والشقاء، ولقد رأينا بأُمِّ أعيننا ما حلَّ بالشعوب في كثير من البلدان بسببها؛ فكم من نفوس معصومة أُزهقت، وأموال محروزة أُتلفت، وأعراض مصونة انتُهِكَتْ، وكم من شعوب شُرِّدَتْ، وأُسَر فُرِّقَتْ، وأطفال يُتِّمَتْ، ومساكن هُدِّمَتْ، إن إثارة الفتن دعوة عمياء يتولى كِبْرَهَا ألدُّ الأعداء، ويروِّج لها الخونةُ والسفهاءُ، ويركُضُ وراءَها الغوغاءُ، فالواجب علينا الوقوف في وجوههم، وأن نكون بنيانًا مرصوصا، أمام من تُسَوِّلُ له نفسُه أن يطعن في وحدة أُمَّتِنا، أو ينال من تماسكها، أو يهدد أمنها، أو يَخرج على أئمتنا وولاة أمورنا، فاستمسِكوا بدينكم عبادَ اللهِ، واعتصموا بوحدتكم، وكونوا يدًا على عدوكم، واثبُتُوا على منهجكم.
ثم اعلموا أن الله قد أوجَبَ الطاعةَ لولاة الأمور، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النِّسَاءِ: 59]، فطاعة ولاة الأمر بالمعروف من ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وفيها صلاح دنيانا التي فيها معاشنا، عن العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- قال: "صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح، ثم أقبل علينا فوَعَظَنا موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فَأَوْصِنَا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن أُمِّرَ عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"(رواه الحاكم).
فاسألوا اللهَ الثباتَ على دينكم، واحذروا الفتن، والتَفُّوا حول ولاة أمركم، وارجعوا إلى علمائكم، وكونوا يدًا على عدوكم، ومن يتربص بأمنكم ووحدتكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النِّسَاءِ: 59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِرُوه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي أسبَغَ النعمَ، ودَفَعَ النقمَ، وجعلنا خيرَ الأممِ، وبثَّ في قلوبنا الإيمانَ، وفي بلادنا الأمنَ والأمانَ، فلله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
عباد الله: لقد فَطَرَ اللهُ الناسَ على مراتب، وسنَّ التفاوتَ بينَهم في القدرة والمواهب، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، ورَفَعَ قدرَهم ودرجاتهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأرشد الناسَ إلى الرجوع إليهم والاقتداء، فهم حَمَلة العلم وحُماة الدِّينِ، وحُرَّاس الفضيلة، صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يَحْمِلُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ"، فإذا راجت الفتن واختلطت البِدَعُ بالسنن، وتكلَّم الرويبضة في أمر العامة، واختلط الحقُّ بالباطلِ، والعالِمُ بالجاهلِ، والحابِلُ بالنابلِ فعَضُّوا على عقيدتكم بالنواجذ، وَثِقُوا في علمائكم وولاة أمركم، واتقوا اللهَ في أنفسكم وفي أمتكم، ولا تَتَّبِعُوا كلَّ ناعقٍ، ومَيِّزُوا بين السابق واللاحق، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْأَنْفَالِ: 45-46].
أيها الشباب: أنتم روح الأمة ومستقبلها، بكم تحيا وتزدان البلاد، وتنهض الأمة في الحاضر والباد، وتنكسر شوكة أهل الضلال والفساد، فالحذرَ الحذرَ من الفتن، ومن السعي وراءها، فإن لدينكم عليكم فرضًا فأَدُّوهُ، ولسلفكم عليكم حقًّا فَوَفُّوهُ، ولبلدكم عليكم واجبا فَاحْفَظُوهُ، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الْأَنْفَالِ: 24-25].
وبعدُ معاشر المسلمين: المسلمون جسد واحد، وبنيان واحد، الاعتداء على أحدهم اعتداء عليهم كلهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مَثَلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسهر والحمى"(رواه مسلم).
إن مصيبتكم ومصيبتنا في حادث الغدر والإرهاب الذي استهدف إخواننا المسلمين، وسفك دماء المصلين، وروَّع أمن الآمنين، وانتهك حرمة بيوت الله، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله، إنها مصيبة عظمى، وفاجعة كبرى، نحتسبها عند الله، وما عند الله خير وأبقى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، أحسن الله عزاء إخوتنا، وعظَّم أجرَهم، وألهمهم الصبرَ والسلوان، وأخلَفَ عليهم في مصيبتهم، عجَّلَ اللهُ بشفاء الجرحى، وغَفَرَ للموتى، وَرَفَعَ درجاتِهم في عِلِّيينَ، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عباد الموحدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وَفِّقْ وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأَيِّدْهُ بتأييدِكَ، وأعز به دينك، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.
عبادَ اللهِ: صَلُّوا وسَلِّمُوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض الله عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.