الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات |
وكم تجرع الناس غُصص التفريط بالكتابة والتهاون بها؛ فضاعت حقوقُ، وشُكِّكَ في ذمم، وتقاطعت أُسُر، وتخاصم أزواج وإخوة أشقاء.. وتقاطعوا وتهاجروا، وافترق الأزواج وتهدمت بيوت وحلَّت البغضاء والشحناء.. وربما وصل الأمر ببعض المجتمعات إلى الاعتداء بالضرب أو أشد.. والحل في ذلك كله التنبه في وقت بداية المعاملة بالتوثيق للديون والمعاملات..
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: يقول ربنا -جل في علاه-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق:1-5]؛ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ، أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحمَ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ.
نَعَم لَقَدْ خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ فِيِ بَطْنِ أُمِهِ ثُمَّ أَخرَجَهُ مِنْهُ لَا يِعلَمُ شيئًا، وجَعَلَ لَهُ السَمعَ والبَصَرَ والفُؤَادَ، وَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ، ويسرَ لَهُ أسبابَهُ؛ فعلَّمهُ القرآنَ، وعلَّمهُ الحكمةَ، وعلَّمهُ بالقلمِ، الذي تُحفظُ به العلومُ التي من أعظمِها الكتبُ المقدسةُ، لتكونَ إعلانًا إلهيًّا للناسِ عن أهميةِ القراءةِ والكتابةِ.
وجَدَّدَ -سبحانَه- هذه النعمة بإنزالِ القرآنِ العظيم؛ فقال مخاطباً رسولَه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)[الشورى:52]؛ والروح التي أوحها إلى رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا القرآن الكريم، وسماه روحًا؛ لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا والدين، لما فيه من الخير الكثير والعلم الغزير.
وهو محض مِنَّةِ الله على رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعباده المؤمنين، من غير سبب منهم، ولهذا قال: (مَا كُنْتَ تَدْرِي)؛ أي: قبل نزوله عليك (مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ)؛ أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمانٌ وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أُميًّا لا تخطّ ولا تقرأ، فجاءك هذا الكتاب الذي (جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع، والأهواء المُرْدِيَة، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم.
أيها الإخوة: وبالكتابة يُحفظ العلم، وتُخلَّدُ الأفكار النافعة وتحيا على مرّ العصور، وبها تُحفَظ الخبرات والتجارب الشخصيَّة، وبها يُحفظ تاريخ الأمم وحضاراتها، وهي كذلك وسيلة لتنفيسِ مكنون النفس من المشاعر يصوغها الكاتب نثرًا، وقد يسكبها شعرًا يبهر السامع ويأسر فكره.
والكتابة تثري عقل الكاتب، وترتب أفكاره، وتمنحه القدرة على الاستنباط وتوليد أفكار جديدة. والكتابة وسيلة تواصل بين البشر في القديم والحديث ورسلاً بين الناس تنوب مناب تخاطبهم اللفظي في كل زمان بحسبه.
أيها الإخوة: ومن أعظم مننه -سبحانه وتعالى- على البشر في قديم الزمان وحديثه أن جعل الكتابة وسيلة تضبط بها الحقوق، وتُصاغ بها العقود، وتُقيد بها الحسابات والتزامات الأفراد والشركات والجماعات، وقد أرشد إليها ربنا -جل في علاه- وجعل أطول أية في كتابه تعالج معاملة من تعاملات الناس التي يحتاجونها وهي آية الدَّيْن لتكون نموذجًا يُحتذى في كل تعاملاتهم التي تحتاج إلى توثيق.
وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا..) إلى أن قال: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة:282].
أحبتي: في هذه الآية أمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبًا وإما استحبابًا لشدة الحاجة إلى كتابتها؛ لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم، وليست الكتابة دليلاً على عدم الثقة بل استجابة لأمر الله وتوجيهه. وَقَالَ جُمْهُورُ أهلِ العلم: الْأَمْرُ بِالْكَتْبِ نَدْبٌ إِلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَإِزَالَةِ الرَّيْبِ، وَإِذَا كَانَ الْغَرِيمُ تَقِيًّا فَمَا يَضُرُّهُ الْكِتَابُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْكِتَابُ يوثق حق صاحبه ويطمئنه.
وليحذر الجميع استصعاب الكتابة أو السأم منها فقد حذرنا ربنا من ذلك فقال: (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ)؛ و(تَسْئَمُوا) مَعْنَاهُا: تَمَلُّوا. وَقَدَّمَ الصَّغِيرَ اهْتِمَامًا بِهِ. وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ السَّآمَةِ إِنَّمَا جَاءَ لِتَرَدُّدِ الْمُدَايَنَةِ عِنْدَهُمْ فَخِيفَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمَلُّوا الْكَتْبَ، وَيَقُولَ أَحَدُهُمْ: هَذَا قَلِيلٌ لَا أَحْتَاجُ إِلَى كَتْبِهِ، فَأَكَّدَ -تَعَالَى- التَّحْضِيضَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.. ونهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود.
وكم تجرع الناس غُصص التفريط بالكتابة والتهاون بها؛ فضاعت حقوقُ، وشُكِّكَ في ذمم، وتقاطعت أُسُر، وتخاصم أزواج وإخوة أشقاء.. وتقاطعوا وتهاجروا، وافترق الأزواج وتهدمت بيوت وحلَّت البغضاء والشحناء.. وربما وصل الأمر ببعض المجتمعات إلى الاعتداء بالضرب أو أشد.. والحل في ذلك كله التنبه في وقت بداية المعاملة بالتوثيق للديون والمعاملات والشراكات بوقتها، حتى ولو كانت المعاملة بين الأزواج أو الإخوة.
إن البدايات غالباً تكون جميلة؛ لأن المعطي يسعد بقضاء حاجة الآخذ، والآخذ يسعد بحلاوة المال وتوسعته.. فإذا جاء القضاء أو ساءت العلاقة انقلب الحبيب بغيضًا والأخ عدوًّا والقريب بعيدًا.. كل ذلك يحصل بسبب التفريط والتسويف والثقة العمياء؛ فالله اللهَ أيها الإخوة، لا تتهاون بأمر الله وتوجيهه.. واضبطوا معاملاتكم بالكتابة.
وفقنا الله لامتثال أمره، وهيَّأ لنا من أمرنا رشدًا.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم…
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ويشرع لكل إنسان أن يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتعاملون قبل الدخول في أعمال تحتاج لتوثيق؛ لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع.
واختاروا للكتابة العدولَ من الناس في أنفسهم لأجل اعتبار كتابتهم؛ لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته، ويجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بينهما، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك. وأن يكون الكاتب عارفاً بكتابة الوثائق، وما يَلزمُ فيها كلَ واحدٍ منهما، وما يحصل به التوثق؛ لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك، لقول الله -تعالى-: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ).
ولا يمتنع مَنْ مَنَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين أو غيرهما، فكما أحسن الله إليه بتعليمه، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته، ولا يمتنع من الكتابة لهم، وقد نوَّه الله -تعالى- إلى ذلك بقوله: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ).
أيها الإخوة: وأرشد الله الكاتب كذلك بعدة إرشادات منها: أمرُ الكاتبِ ألا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق، وأن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدَّين، وأمر من عليه الحق أن يبيِّن جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئًا، فإقراره على نفسه مقبول؛ لأن الله أمر من عليه الحق أن يملِ على الكاتب، فإذا كُتبَ إقرارُه بذلك ثبت موجبه ومضمونه، ولو ادعى بعد ذلك غلطًا أو سهوًا، ويحرم على من عليه حقٌّ من الحقوق أن يبخس وينقص شيئًا من مقداره، أو طيبه وحسنه، أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه.
(فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ) أي من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه، أو نحو ذلك، فإنه يحلّ وليُّه مكانه في الإملاء والإقرار، ويلزم الوليَ من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل، وعدم البخس لقوله سبحانه: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).
ويُشْرَع الإشهاد على العقود؛ لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق، وما فيه من مصلحة للمتعاقدين، وإن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك وجب على الولي الإشهاد لما فيه من حفظ لحقوقهم.
هذه بعض الأحكام التي ينبغي مراعاتها ليسلم المجتمع من الاختصام والعداوة وقد هيَّأت الدولة -وفَّقها الله- مصالح حكومية تقوم بذلك خير قيام، لكننا نفرط ونقصر!
فاللهم وفقنا لاستماع الحق واتباعه واجعلنا هداة مهتدين.
وصلوا على نبيكم..