المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
هذه بعض قصص الثابتين من صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الذين علمونا درس الثبات والتضحية، وصدّقوا أقوالهم بأعمالهم، وحققوا بيعتَهم بدمائهم. وكان في ثباتهم الفوز الكبير، وإغاظة الأعداء، واستطعام...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه...
عباد الله: ما أحوجَنا إلى دروس الثبات، وإلى تعلم قصة الثبات، وتتبع آثار الصالحين الذين ثبتوا زمن المحنة، ورسَخوا رغم اشتداد الغربة، وضحوا ساعات النكاية والكربة.
وفي القرآن صور للثبات ومواقف تزيد المؤمن إيمانا، وتلهمه الثبات، وتلقنه الصبر الذي يدفع به كل بلية وحرج، ويزحزح به كلَّ عاصفة تحاول نسفه وتغييره: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)[يوسف: 111]، وقال تعالى: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود: 120].
والسيرة النبوية عالمٌ رحب من الثبات على الدين والتضحية لأجله، وقد علّم نبينا -صلى الله عليه وسلم- صحابته الكرام كيف يحملون هذا الدين، وكيف يصبرون عليه، وكيف يثبتون على دينهم، ولا يقبلون فيه عرضاً من أعراض الدنيا، في صحيح البخاري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، وفيهم خُبيب بن عدي وزيد بن الدثِنة وآخرون.
وفي رواية: أنه أرسلهم لتعليم الإسلام والدعوة، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين (عُسفان ومكة)، ذُكروا لحي من هُذيل، يقال لهم: "بنو لِحيان" فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ (يريدون الفتك بهم، وكسر شوكتهم، وتمزيق دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقتصوا آثارهم، حتى إذا نزلوا نزلاً، وجدوا فيه نوى تمر يثرب، فعرفوا أنهم دنوا من القوم، وكانوا رهطاً لا يتجاوزون العشرة.
فقال المشركون قُصّاص الآثار: "هذا تمر يثرب، فأمعنوا في التتبع حتى لحقوهم فوصل عاصم وصحبه إلى فَدفَد (مكان مرتفع من الأرض)".
فجاء المشركون وأحاطوا بهم فقالوا: "لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا"، فقال عاصم: "أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبِر عنا نبيك" فقاتلهم حتى قتلوه مجتمعين.
وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق فنزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسّيهم، فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: "هذا أول الغدر!".
فأبي أن يصحبهم فجروه وعالجوه فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخُبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب قد قتل الحارثَ بن عامر يوم بدر.
ثم مكث خبيب أسيراً عندهم مدة، ثم استعار موسَى (آلة الحلق) يستحد به من امرأة قريبة منه، فأعطته لغلام يناوله، فكان لها صبي، قد غفلت عنه، وتذكرت فرجعت مسرعة فقال: "أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله"، ثم إنهم خرجوا به إلى التنعيم ليصلبوه، فقال: "دعوني أصلي ركعتين"، فركعهما وأحسنَهما، ثم انصرف وقال: "لولا أن ترو أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت"، وكان أول من سنّ الركعتين عند القتل.
ثم قال: "اللهم بلغنا رسالةَ رسولك، فبلّغه الغداةَ ما يُصنع بنا"، ثم دعا الدعاء المشهور: "اللهم احصِهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا"، وقال:
ولستُ أبالي حين أقتلُ مسلما
وذلك في ذات الإله فإن يشأ
وكان معاوية -رضي الله عنه- حاضراً مع أبي سفيان والده، قال: "فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرَقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه لم تصبه الدعوة".
ثم أخذه الحربة عقبةُ بن الحارث فطعنه بها ومات رضي الله عنه.
وكان ممن شهد مقتل خبيب سعيد بن عامر الجُمحي وهو مشرك، فكانت تأخذ غَشيةٌ فسأله عمر لما رُفع إليه في شكوى، قال: "كنت حضرتُ دعوةَ خبيب، فما تذكرتها إلا غُشي عليه، فزاده ذلك عند عمر خيراً".
وأما زيد بن الدثِنة فلما أخرجوه من الحرم ليقتلوه اجتمع عليه رهط من قريش، منهم أبو سفيان، فقال له أبو سفيان: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك تُضرب عنقُه، وأنك في أهلك؟" فقال: "والله ما أُحب أن محمداً الآن في مكاني الذي فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي".
فقال أبو سفيان: "ما رأينا من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمداً" ثم قتلوه.
وفي محاوله أخرى شانئة يرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين رجلاً من خيار المسلمين إلى نجد عُرفوا بالقراء يحطِبون بالنهار، ويصلون بالليل، وهم (أصحاب بئر معونة)، وقيل: أرسلهم أيضا لتعليم الإسلام، ونشر الخير، ويقال: إن أبا براء عامر بن مالك عرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال: "إني أخاف عليهم أهل نجد"، فقال أبو براء: "أنا جارٌ لهم"، فلما بلغوا بئر معونة قريبا من بني سُليم بعثوا حرامَ بن مِلحان بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وأمر رجلا فطعن حراماً بالحربة من خلفه.
ثم استنفر المشرك بني عامر لقتال المسلمين فلم يجيبوه لجوار أبي عامر، فاستنفر بني سُليم فأجابه (عُصية، ورِعْل، وذَكوان)، وحاصروا المسلمين، وسألوا أن يعطوهم سيوفهم، فأبوا واختاروا المواجهة، فنشبت معركة ضارية قُتل فيها المسلمين جميعا إلا كعب وزيد بن النجار كان به رمَق ونجاه الله.
وكان رجلان قد تأخرا كان يسرَحان بالإبل، وهما "الحارث بن الصِمة الأنصاري" و "عمرو بن أمية الضَّمْري" فرأوا الطير تحومُ على العسكر فقالا: "إن لهذه الطير شأنا" فأقبل فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة!
فقال الأنصاري لعمرو: "ما ترى؟" فقال: "أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر"، فقال الحارث بن الصمة: "واللهِ ما كنت لأرغبَ بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذر بن عمرو -وكانا متحابين في الإسلام- وما كانت لتُخبرني عنه الرجال" ثم قاتل القوم حتى قتل -رضي الله عنهم أجمعين-.
ثم أخذوا عمرو بن أمية وأسروه، ثم لما حدثهم أنه من "مُضر" أعتقه عامر بن الطفيل بعد أن جز ناصيته زعم أنه عن رقبة كانت على أمه، وقد تألم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهاتين الفاجعتين "الرجيع" و "بئر معونة"، فدعا ثلاثين صباحا على الذين قتلوهم "رعْل" و "ذكوان" و "لِحيان" و "عصية".
وظهرت في هاتين الحادثتين كرامات لعامر بن فهيرة كما في صحيح البخاري: أن عامر الطفيل هذا سأل عمرو: من هذا لرجل؟ فقال: "عامر بن فُهيرة"، فقال: "لقد رأيته بعد ما قتل رُفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع".
وعاصم لما قُتل أرادت امرأة مشركة أن تشرب في قَحفة رأسه الخمر؛ لأنه قتل ابنيها في بدر، فلما دنوا منه سلط الله على جثته الدبْرَ والزنابير، فحالت دونهم، فقالوا: "إذا أمسى أخذناه"، فسال الوادي ماءً، فاحتمل الجثة.
وكان عاصم قد أعطى الله عهداً أن لا يمسَّه مشرك، فقال عمر لما بلغه ذلك: "يحفظ الله المؤمن في حياته وبعد مماته". (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران: 169].
اللهم ارضَ عن أولئك الأبطال، وامنحنا الصدق والثبات، كما منحتهم يا ذا الجلال والإكرام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً…
إخوة الإسلام: هذه بعض قصص الثابتين من صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الذين علمونا درس الثبات والتضحية، وصدّقوا أقوالهم بأعمالهم، وحققوا بيعتَهم بدمائهم .
لقد علّمتنا الطائفة المؤمنة كيف نثبت على هذا الدين، وعلمتنا كيف نصبر عليه، ونحتمل بلواءه، ونجاهد في سبيله.
وعلمتنا أهمية الثبات، وأنه خَيار أهل الإيمان في هذه الحياة إذا أرادوا.
وكان في ثباتهم الفوز الكبير، وإغاظة الأعداء، واستطعام الصبر، وحب الإسلام، وتفدية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واحتقار الوثنية، شجاعتهم النادرة، وتكريم الله لهم، وضرب أروع النماذج في التضحية والبطولات.
نتعلمها ونعلمها أجيالنا وأبناءنا ليرشفوا منها مِداد الكرامة، ويستنشقوا نسمات العز، ويستطعموا شهد الشجاعة والصبر.
كذا هم الجيل الفريد في صبرهم وتضحيتهم، وهم أجدر بلقب البطولة والبسالة التي صارت توزع بالمجان على كل من هب ودب.
فيُنعت بها المهرج والسخيف أو المنحل أو المنافق المرتزق من لا قيمة لهم في المجتمعات إلا السخف والتهريج، أو الشقاء والأذية، وكانوا زيادة عليلة وثقيلة في دنيانا، قال الأستاذ الرافعي -رحمه الله-: "إذا لم تزد شيئا على الدنيا كنت زائدا عليها".
وأولئك الأفذاذ زادوا عليها كل جميل، وألبسوها كل أصيل، وتوجوها كل نبيل، فلو لاهم كانت الحياة بلا معنى ولا طعم، ولحقك فيها الغم والسم.
وصلوا وسلموا...