العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحياة الآخرة |
وللشيطان أسباب يتقوى بها على العبد في تلك اللحظات العصيبة، فمن أَسباب سوء الخاتمة: تركُ الفرائضِ وارتكاب المحرَّمات، والرّكونُ إلى الدنيا وشَهَواتها، هي من أعظم أسباب سوء الخاتمة وأكثرها، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا نظرت إلى حال...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لحظة حاسمة في حياتنا يغفل عنها الكثير منا، هذه اللحظة مهمة وخطيرة؛ لأنها قد تقود الإنسان إلى سعادة أبدية لا شقاء بعدها، أو تقوده إلى شقاء ونار تلظى، والعياذ بالله، تلك اللحظة هي ختام حياة الإنسان، بختام أعماله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تعجبوا بعملِ عامِلٍ حتى تنظروا بم يُختَمُ له"(صحيح الجامع)؛ فمن وفَّقه الله لعمل صالح يختم به عمره فقد كتب الله له حُسن الخاتمة، ومن خذلَه فختَمَ ساعة أجله بمعصيةٍ وذنب فقد خُتِمَ له بخاتمة سوءٍ، نسأل الله السلامة.
أيها المؤمنون: سوء الخاتمة، وما أدراك ما سوء الخاتمة؟! هي المصيبة العظمى، والخسارة الفادحة، والشقاء الأبدي، ومعناها أن يموتَ العبد على حالةٍ سيئة لا تُرضِي الله -عز وجل-، فتُقبَض الروح على تلك الحال من الذنب والمعصية، فيلقى الله -تعالى- بها، ويبعث عليها، فبئس الخاتمة تلك التي طالما تخوف منها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم -سبحانه- أن يُجنبهم إياها.
إن الشيطان يحشُد كل قوته لإضلال الإنسان عند الموت؛ لأنه يكون في أضعف أحواله، فيرسل أعوانه إلى هذا الإنسان، فيأتون المرء وهو على تلك الحال، فيتمثلون له في صورة من مضى من أحبابه الميتين؛ كالأب والأم، والأخ والأخت، والصديق، فيقولون له: أنت تموت يا فلان، ونحن قد سبقناك في هذا الشأن، فمت يهودياً؛ فهو الدين المقبول عند الله -تعالى-، فإن أبى جاءه آخرون، وقالوا له: مت نصرانياً، فإنها -والله- لفتنة عظيمة يُثبِّت الله فيها قلوبَ المؤمنين الصادقين الذين استقاموا على طاعته، وتنتكسُ فيها قلوبُ المنافقين والمفرِّطين والظالمين، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم: 27].
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشد لحييه، فكان يغمى عليه ثم يفيق، ويقول بيده: "لا بعدُ، لا بعدُ"، فعل هذا مراراً، فقلت له: "يا أبت أي شيء ما يبدو منك؟"، فقال: "إن الشيطان قائم بحذائي، عاضّ على أنامله يقول: يا أحمد فُتَّني، وأنا أقول لا بعدُ، لا بعدُ؛ حتى أموت"، ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فقيل له: أتبكي على الذنوب؟ فأخذ تِبْنةً من الأرض وقال: "الذنوب أهون من هذه، إنما أبكي خوفاً من سوء الخاتمة"، وكان يقول: "أخافُ أنْ أُسلبَ الإيمانَ عند الموت".
أيها الإخوة: تأملوا معي قول رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا"(متفق عليه).
هذا الحديث عظيم، فيه بشارة وفيه تخويف، بشارةٌ لمن تاب وأصلح عمله قبل الموت، بأنه إذا خُتِم له بعمل أهل الجنة كان من أهلها، وتخويفٌ للمؤمن الطائع من أن يزل ويعمل بعمل أهل النار؛ فيُختمَ له عليه فيدخلَها، والعياذ بالله.
وإياك أن تفهم -يا عبد الله- من أن الله يخذل أولياءه الصادقين، أو يضيع أجر المحسنين، فيقلب إيمانهم عند الموت، فهذا أمر لا يقع مطلقًا، ولا يليق برحمة الله وعدله، ولهذا قال النووي -رحمه الله-: "وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع فِي نَادِر مِنْ النَّاس، لَا أَنَّهُ غَالِب فِيهِمْ، ثُمَّ أَنَّهُ مِنْ لُطْف اللَّه -تَعَالَى- وَسَعَة رَحْمَته اِنْقِلَابَ النَّاس مِنْ الشَّرّ إِلَى الْخَيْر فِي كَثْرَة، وَأَمَّا اِنْقِلَابُهمْ مِنْ الْخَيْر إِلَى الشَّرّ فَفِي غَايَة النُّدُور، وَنِهَايَة الْقِلَّة" اهـ، وحمله آخرون على المنافق أو المرائي الذي فسد باطنه، ويؤيده رواية: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس".
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، إنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، أو إقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزلَ عليه الموت قبل التوبة، فيأخذَه قبل إصلاح الطوية، ويصطدمَ قبل الإنابة، والعياذ بالله".
أيها المؤمنون: وللشيطان أسباب يتقوى بها على العبد في تلك اللحظات العصيبة؛ فمن أَسباب سوء الخاتمة: تركُ الفرائضِ وارتكاب المحرَّمات، والرّكونُ إلى الدنيا وشَهَواتها، هي من أعظم أسباب سوء الخاتمة وأكثرها، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة؛ عقوبة لهم على أعمالهم السيئة".
وقال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي -رحمه الله-: "وأعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباباً ولها طرق وأبواب أعظمها: الانكباب على الدنيا وطلبها، والحرص عليها، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله -عز وجل-، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد".
فإذا أصر العبد على المعاصي وألفَها مدة حياته وأحبها وتعلق بها؛ فالغالب أنه يموت عليها، قال ابن كثير -رحمه الله-: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذُل صاحبها عند الموت".
ولذا حذرنا ربنا من كثرة العصيان والجرأة على حدوده؛ حتى لا تحول بين العبد وبين ربه، قال -جل وعلا-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الأنفال: 24]، قال مجاهد: "المعنى : يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع".
ومن أسباب سوء الخاتمة: الرياء بالأعمال الصالحة، وفي الحديث: "أن رجلاً من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا، فاتبعه رجل من القوم، وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين، حتى جرح، فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه، حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعًا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما ذاك؟، قال: قلت لفلان: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم"(البخاري).
وفي رواية: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"(البخاري)؛ فلنكن على حذر من الرياء والعمل لغير الله، واحرص على -أخي الكريم- على الإخلاص لله رب العالمين، فالإخلاص سبيل النجاة.
ومن الأسباب: أمراض القلوب، وأسوأ الأمراض التي تُفسد القلب وتُمرضه وتُهلكه: الكِبْر والحَسد والحِقد والغِلّ والعُجب والغدر والخيانة والمكر والخِداع والغِش واحتقار الناس وظلمهم، فهذه الأمراض وغيرها تكون سببا في هلاك صاحبها وخُسرانه فضلا عن سوء خاتمته.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المذكورِ بكلِ لسان، المشكورِ على كلِ إحسانٍ، والصلاة والسلام على عبده من عدنان، وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعهم بإحسان، وبعد:
عباد الله: ذكر الإمام ابن القيم قصصًا كثيرة عن أقوام عجزوا عن قول: "لا إله إلا الله" عند موتهم، ورددت ألسنتهم ما تعلقت به قلوبهم في الدنيا من حرام أو مباح، فقد قيل لرجل كان يشرب الخمر، قل: لا إله إلا الله، فقال: "اشرب واسقني"، ثم مات، وقيل لرجل كان يلعب الشطرنج، فقال: "شاه رخ، ومات"، وآخر كان منهمكًا في التجارة فقال: "هذه رخيصة وهذا مشترى جيد" ثم مات.
وقال عبد العزيز بن أبي رَوّادٍ: حضَرتُ رجلاً عند الموتِ يلقَّن: لا إلهَ إلا الله، فقال في آخر مَا قَالَ: "هُو كافِرٌ بهَا"، ومات على ذلك، قالَ: فسألتُ عنه فإذا هو مُدمِنُ خمرٍ. وقيل لرجل من أكلة الربا: قل: لا إلهَ إلا الله، فقال: "عشَرةٌ بأحدَ عشَر"، وقيل لآخر: اذكُرِ الله، فقال: "رِضا الغلامِ فلان أحبُّ إليَّ مِن رِضا الله"، وكان يميل إلى الفاحِشَة تعلق قلبه بغلام، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: "يا رُبَّ قائِلةٍ يَومًا وقد تَعِبت: أينَ الطريقُ إلى حمّام منجَابِ؟"، وكان تعلق قلبه بجارية حتى مات.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: "تاتنا تنتنا حتى مات"، وقد رأينا في زماننا هذا من مات وهو ماسك العود يغني، أو سقط ميتاً وهو يرقص على أنغام الغناء، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: "سيجارَة سيجارَة"؛ وكان مدمناً في الدّخَان.
يقول أحد الدعاة: كنت أسير بسيارتي فإذا بحادث شنيع لإحدى السيارات، نزلت فوجدت شابًّا مصابًا في الحادث، الدماء تنزف من جسده، حالته خطيرة جدًّا، كان هذا الشاب يعالج الموت، تم تلقينه الشهادة، قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، فسكت الشاب قليلاً ثم تكلم، وليته ما تكلم، قال: "أنا ما أنساك لو تنسى"، "أنا ما أنساك لو تنسى"، وأخذ الشاب يغني حتى مات على مزامير الشيطان؛ عياذًا بالله.
عباد الله: إنَّ الخوفَ من سوءِ الخاتمة ينبغي أن يلازم الإنسان في كل لحظة، لتكون القلوب وجلة، راغبة في طاعة الله -عز وجل-، مستعدة للقائه -سبحانه- في أي وقت.
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).