الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن داود الفايز |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
الصبر نصف الدين، فيريد الحكيم العليم أن يدرك المسلم تلك الأجور العظيمة: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، فيستخرج الحكيم العليم من عبده عبادة الصبر إذا أصابه شيء من أقدار الله، فهذا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على طريقته ونهجه.
أما بعد:
فيا عباد الله: (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
واعلموا -يا رعاكم الله- أن سنة الابتلاء ماضية في عباده: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، وقال جل وعلا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 154 - 155]، وقال جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214]، قال ابن كثير: "هي الأمراض والأسقام والمصائب والنوائب".
فالله يبتلي عباده بالخير والشر، فإذا أصاب المسلم شيء من قدر الله فإنه يتذكر النصوص الواردة من كتاب الله، ويتأمل بالحكم والفوائد، وإذا نظر إلى ذلك هانت عليه المصيبة، أما إذا نظر إلى الجانب السلبي من تلك المصيبة كالألم من المرض، ونحو ذلك؛ فإنه يتألم ويتحسر، وربما يعترض على قدر الله فيحصل له مع الألم فوات الأجر.
ولعلنا نتأمل شيئا من حكم الله وفوائد تلك الابتلاءات التي تصيب العباد؛ منها: استخراج عبودية الصبر، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وذلك ليس إلا للمؤمن".
فالمؤمن -يا عباد الله- يتقلب بين عبادتين عظيمتين: عبادة الشكر، وعبادة الصبر، فإذا كان بنعمة من الله شكر الله بقلبه وبلسانه وبجوارحه، وإذا كان في مصيبة تعبد الله بالصبر والرضا والتسليم، والله حكيم عليم.
عندما ابتلى ربنا الصحابة في معركة أحد تكلم ابن القيم -رحمه الله- عن شيء من حكم تلك الغزوة، قال: "ومنها: استخراج عبودية الصبر، ولا يمكن أن يتحقق ذلك أعني عبادة الصبر إلا بالابتلاء والامتحان.
والصبر -يا عباد الله- نصف الدين، فيريد الحكيم العليم أن يدرك المسلم تلك الأجور العظيمة: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
فيستخرج الحكيم العليم من عبده عبادة الصبر إذا أصابه شيء من أقدار الله، فهذا يبتلى بالمرض، وما أكثر الأمراض -يا عباد الله- التي تصيب العباد.
وآخر يبتلى بفقد حبيب، وآخر يبتلى بخسارة مالية، وآخر يبتلى بأذية، وآخر يبتلى بتشريد والابتلاءات كثيرة.
ومن حكم تلك الابتلاءات وفوائدها وثمراتها: دخول الجنة -نسأل الله الكريم من فضله-.
فتأمل -أيها المبتلى- في تلك المرأة التي أتت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله إنني أصرع فادع الله لي؟ فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك"، فقالت: اصبر ولكن ادع الله أن لا أتكشف؟ فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم تتكشف بعد"، فهنا قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت صبرت ولك الجنة".
أيها المبتلى بمرض أو غيره: اصبر واحتسب الأجر من عند الله، فثواب الصبر على البلاء الجنة؛ كما جاء في الحديث الآخر: "إذا ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه" أي عينيه "فصبر عوضتهما منهما الجنة" فمن أصابته الأمراض المزمنة كالسكر والضغط، وغير ذلك عليه أن يحتسب الأجر من عند الله، ويتعبد الله، وينظر إلى هذا الجانب المشرق.
ومن ثمرات الابتلاء كذلك -يا عباد الله-: استخراج الأمراض القلبية كالكبر والحسد، وغير ذلك، والعجب، وغير ذلك، فعندما يعجب الإنسان بنفسه ويصيبه مرض من الأمراض أو بلاء من الابتلاءات التي يقدرها ربنا ينكسر قلبه، ويعرف قدره، ويتضرع لخالقه.
ومن ثمراتها وفوائدها: الانتباه من الغفلة، فبعض الناس قد يغفل عن طاعة الله، فيأتيه الحكيم العليم بمرض أو بلاء من الابتلاءات فينتبه لنفسه ويراجع نفسه، فكم من شخص غافل ساهٍ لاهٍ، غافل عن ربه، فنزلت به مصيبة فأصبحت كالدواء، انتبه وعاد إلى ربه، والله لا يقدر شيئا عبثا، فهو حكيم عليم.
ومن فوائد تلك الابتلاءات: أن الإنسان يتذكر نعم الله عليه، فقد يكون في صحة وعافية فلم يعرف قدر هذه النعمة، فإذا نزل به المرض عرف تلك النعمة، عرف لذة النوم إذا تقلب على فراشة إلى ساعة متأخرة من الليل عرف قدر نعمة النوم ونعمة الصحة والعافية وتذكر إخوانه المرضى والمبتلين بأنواع البلايا والرزايا فيعطف عليهم ويتواصل معهم، وكذلك يعرف ما من الله عليه به.
ومما يساعدنا -يا عباد الله- على الصبر على الابتلاء: أن نعلم أنها من عند الله: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11] فإذا علم المسلم أن هذا القدر الذي حل به من عند الله سلم به ورضي، ومن رضي رضي الله عنه، إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فمن رضي فله الرضا، وهذا يساعد أيضا أن الابتلاء علامة على محبة الله لعبده فيرضى عن خالقه: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [البينة: 8] فيسلم لقضاء الله وقدره، ويعلم بأن الله حكيم في قضائه وقدره، فيسلم ويرضى بتلك البلوى التي نزلت به من عند الله.
ومما يساعدنا -يا عباد الله-: أن نعلم ونعتقد ونجزم أن الله أرحم بالعبد من نفسه، ألا ترون -يا رعاكم الله- إلى المرأة التي في السبي تبحث عن صبي لها، فلما وجدته ألقمته صدرها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أترون أن هذه المرأة ملقية ولدها في النار؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
فإذا علم المسلم أن الله أرحم من الوالدة بولدها، وأرحم من الإنسان بنفسه لا ينظر إلى الابتلاء بعقله القاصر وإنما يتأمل بحكم الله، تكلم ابن القيم في كتابه القيم: "شفاء العليل" عن ثمرات الابتلاء وعدد أكثر من مائة فائدة في حكم الله وفي فوائد الابتلاء والامتحان، وهذا مما يساعد الإنسان على الصبر وعلى الرضا بقضاء الله وقدره.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد:
أيها المسلمون: إذا أصيب المسلم بمصيبة فعليه أن يتجه إلى الله بكشفها، وهذا من مواطن إجابة الدعاء، قال الله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62] فالله يجيب المضطر إذا انكسر بين يدي خالقه -جل في علاه-، بل إن الله أجاب الكفار عندما تضرعوا إليه، وانكسروا بين يديه، فالمضطر يجيبه ربنا ولا يعجل.
ومما يجابه به البلاء: تقوى الله -جل وعلا-، قال الله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2 - 3].
ومما يساعد على دفع البلاء ورفعه: الصدقة، قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الذي حسنه الألباني: "داووا مرضاكم بالصدقة".
وكذلك: قراءة القرآن، والله يقول: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء: 82] فقارئ القرآن تنزل عليه السكينة، وكذلك قول أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في المصيبة: "إنا لله وإنا إليه راجعون".