الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
إن من أسماء الله -تعالى- "الشكور"، وقد ورد في أربعة مواضع من القرآن، والشكور هو الذي لا يضيع سعي العاملين لوجهه، بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة، لذا فإنه -عز وجل- يضاعف الحسنة بعشر أمثاله إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" (مسلم)، وقال -عز من قائل-: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:30]، وذلك من شكره -سبحانه وتعالى- لخلقه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: تكاثرت علينا نعم الله -عز وجل- وعمتنا وشملتنا حتى أحاطتنا وأغرقتنا، وصدق الله -تعالى- حين قال: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20]، وقد عرض الله علينا وامتن ببعض من نعمه قائلًا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، لكنه -تعالى- اختتم هذه الآيات قائلًا: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:32-34]، يعني: ظلوم لنفسه حيث يضع الشكر في غير موضعه فيشكر غير من أنعم عليه -سبحانه وتعالى-، وكفار بنعمة ربه يجحدها ويمنع شكرها.
وقد قضى الله وأبرم أنه من شكره أدام عليه نعمته، ومن كفر نعمه نزعها منه، فقال -عز من قائل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : 7]، وما يشكر نعم الله إلا القليل، كما قال -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : 13].
أيها المسلمون: إن على العباد أن يحمدوا الله كما أن عليهم يشكروه على نعمه، وقد فرَّق العلماء بين الحمد والشكر فقالوا: الشكر أخص من الحمد؛ فالحمد يكون على صفات الإنسان الحسنة التي يتحلى بها فتحمدها فيه، ويكون أيضًا على المعروف الذي يؤديه إليك فتحمده عليه، أما الشكر فيكون على المعروف دون الصفات، وعليه فإن الحمد الثناء على الممدوح بصفاته من غير سابق إحسان منه عليك، أما الشكر فهو الثناء عليه بما له عليك من إحسان.
عباد الله: إن من أسماء الله -تعالى- "الشكور"، وقد ورد في أربعة مواضع من القرآن، والشكور هو الذي لا يضيع سعي العاملين لوجهه، بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة، لذا فإنه -عز وجل- يضاعف الحسنة بعشر أمثاله إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" (مسلم)، وقال -عز من قائل-: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:30]، وذلك من شكره -سبحانه وتعالى- لخلقه.
ومن شكره -تعالى- للمؤمنين أن جعل لهم الجنة جزاءً على إيمانهم وعملهم الصالح، قال -تعالى-: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43]، وأهل الجنة يدركون هذه الحقيقة فيقولون: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر: 34-35]، مع أنه -عز وجل- هو الذي تفضل بتوفيقهم إلى الإيمان والعمل الصالح.
وقد ورد هذا الاسم في القرآن بصيغتين: الشاكر والشكور، قال -عز وجل-: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147]، وقال: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158]، وقال: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 30]، وقال: (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 34]، وقال: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن: 17].
يقول ابن القيم عن الشكور -سبحانه وتعالى-: "فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبده بقوله بأن يثنى عليه بين ملائكته وفى ملأه الأعلى ويلقى له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله؛ فإذا ترك له شيئًا أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئًا رده عليه أضعافًا مضاعفة، وهو الذى وفقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك" (عدة الصابرين)، ويقول في النونية:
وهو الشكور فلن يضيع سعيهم | لكــــن يــضــاعــفــه بـــلا حــــســـــبــان |
ما للـــعبــــاد عــــلــيــه حـــــق واجـــب | هو أوجب الأجر العظيم الشأن |
كــــلا ولا عــــمـــل لــديــه ضــــائـــع | إن كان بالإخلاص والإحسـان |
إن عـــذبـوا فــبــعـدلـه أو نـعــمـوا | فبفـضـلــه والـحـمــد للمنــان |
والشكور صيغة مبالغة من الشاكر؛ فإن كان معنى الشاكر: الذي يجازي العباد على أعمالهم ويزيدهم من فضله، فإن معنى الشكور: الكثير الشكر لعباده، الذي يجزي بالقليل كثيرًا وبالزهيد عظيمًا.
أيها المسلمون: إن من واجب العباد أن يقابلوا شكر الله بشكرهم إياه، فإنه -تعالى- هو المستحق للشكر على نعمه التي عمتنا وشملتنا، ومن طرائق شكرنا لله ولنعم الله -تعالى-: ما يلي:
أولًا: الإقرار بفضل الله ونعمه والاعتراف بها: فهذا نبي الله يوسف يقول: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) [يوسف: 38]، وهذا سليمان -عليه السلام- يقول: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، وهذا ذو القرنين بعد بناء السد يقر أنه ما تم إلا بفضل ربه فيقر قائلًا: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) [الكهف: 98]، بل هذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا" (متفق عليه).
وقد علَّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: في سيد الاستغفار أن نقول: "أبوء لك بنعمتك علي" (البخاري)، أي: أعترف لك وأقر لك بنعمك عليَّ.
ثانيًا: العرفان لله بأنه وحده المستحق للشكر على وجه الحقيقة: فهو المعطي حقًا وهم المنعم حقًا، وإنما تجري نعمه إليك على يد غيره صورة لا حقيقة.
ثالثًا: شكر من أجرى الله نعمه إليك على أيديهم: فإن شكر الناس من شكر الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" (أبو داود)، وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره" (أبو داود).
رابعًا: استخدام النعم في الطاعة: قال -تعالى-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، أي: "وقلنا يا آل داود: اعملوا بطاعة الله -تعالى- شكرًا على نعمه" (تفسير الخازن).
خامسًا: ومن حقه أيضا إخراج حق الأموال من الزكاة الواجبة ومن الصدقات المستحبة: وكذلك بإخراج زكاة العلم بتعليمه، وزكاة الصحة بإعانة الضعيف... فعن أبي ذر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك" (ابن حبان، وأصله في صحيح مسلم).
سادسًا: المحافظة على النعمة بالاقتصاد فيها وعدم التبذير: قال الله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 30]
سابعًا: التحدث بنعم الله: فذلك أمر الله -تعالى- حين قال: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11]، وعن النعمان بن بشير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "التحدث بنعم الله شكر، وتركها كفر" (البيهقي في شعب الإيمان)، ويكون هذا التحديث لمن يحب لك الخير.
ثامنًا: التمتع بالنعمة بالمعروف وعدم كنزها: فعن أبي الأحوص عن أبيه قال: كنت جالسًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرآني رث الثياب فقال: "ألك مال" قلت: نعم يا رسول الله من كل المال، قال: "فإذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك" (النسائي)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (الترمذي).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون: فإن العبد إذا آمن حق الإيمان بأن الله -تعالى- هو الشاكر الشكور أثمر ذلك في قلبه وعلى لسانه وفي سلوكه وأعماله أطيب الثمار، ومنها ما يلي:
أولًا: أن يجود العبد ويكرم: فما دام يعلم أن الله -عز وجل- شكور سيجزيه بإحسانه إحسانًا وجنة وغفرانًا، فلن يبخل ولن يتردد أن يجود وينفق ويعطي، فالله -تعالى- هو القائل: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19]، وهو القائل لأهل الجنة وهم غارقون في نعيمها: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) [الإنسان: 22].
ثانيًا: أن يأمن العبد من زوال نعم الله عنه: فقد قضى الله -عز وجل- وأبرم أن من شكر نعمته زاده، ومن كفرها نزعها منه، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، وهذا مثال حي لقرية كفرت بنعم الله فنزعها منها، قال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، فبعد الأمن حل محله الخوف، وبعد الرزق الرغد حل محله الجوع!
ثالثًا: أن يلطف لسان العبد ويلهج بشكر ربه وشكر الناس الذين أولى الله نعمه عليه بسببهم، وأن يعدَّ ذلك إيمانًا وطاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو الآمر: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" (أبو داود).
رابعًا: أن يتعلق قلب العبد بالمنعم الشكور وحده فينسب إليه الفضل في كل أمر، ولا يشرك به أحدًا من خلقه -وإن شكرهم-، فيبرأ العبد من نسبة النعم إلى كده وعرقه أو إلى ذكائه وفطانته، بل إلى المنعم المتفضل بها، الذي إن شكرتَها أنت شكر هو -عز وجل- لك ذلك بأجره ومكافأته.
فاللهم يا شاكر يا شكور، اجعلنا لك من الحامدين الشاكرين، وتقبل منا حمدنا وشكرنا، وأدم علينا نعمك ولا تنزعها منا.
وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد..