الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
الله هو الباقي -سبحانه وتعالى- وغيره إلى زوال, فلا يتعلق العبد بشيء من حطام الدنيا, بل يتعلق بما عند الله وما عند الله خير وأبقى, ولذلك ينادي -سبحانه- يوم القيامة: "لمن الملك اليوم؟! فيقول: "لله الواحد القهار"، وهذا النداء حقيقة ما ينكشف للأكثرين في ذلك اليوم...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1], (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: فــإن في تدبر معاني أسماء الله -عز وجل- وصفاته أكبر عون على تدبر كتاب الله؛ حيث أمرنا الله تعالى بتدبر القرآن في قوله -عز وجل-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
وقد ذكر الله -عز وجل- في كتابه الكثير من أسمائه وصفاته؛ ليتعرف العبد إلى هذا الإله العظيم والرب القدير, فيقوم بواجباته تجاهه فتحصل له خيرية الدنيا والآخرة؛ وإن من أسماء الله التي ينبغي أن نتدبرها ونعي معناها وآثارها في حياتنا اسم الله "الباقي".
والبقاء ضد الفناء، والله هو الباقي الذى الذي لا ابتداء لوجوده، والذي لا يقبل الفناء، هو الموصوف بالبقاء الأزلي من أبد الأبد إلى أزل الأزل، فدوامه في الأزل هو القدم، ودوامه في الأبد هو البقاء، ولم يرد اسم الباقي بلفظه في القرآن الكريم، ولكن مادة البقاء وردت منسوبة إلى الله -تعالى-، قال -سبحانه-: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه:73]، وقال -عز وجل-: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ)[الرحمن: 27]، قال الطبري في تفسيره: " كلّ من على ظهر الأرض من جنّ وإنس فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام".
وهو الباقي بعد فناء الخلق قال -سبحانه-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88], قال ابن كثير: "هذا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ".
وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ, كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ"(رواه البخاري).
عباد الله: إن الإنسان مهما عَمِرَ في هذه الحياة فلابد أن يموت مهما كان عنده من نعم ومال ودار وعقار، ومهما استخدم من دواء وعلاج أو ذهب لأفضل المستشفيات والأطباء، فإنه لابد أن يفنى ويموت.
وإن الإنسان مهما كان عنده من ملك وسلطان وجاه ومنصب واتباع فلا بد أن يأتي يوم وينتهي ذلك كله؛ يروى أن ملكًا من الملوك بنى قصرًا وشيده وزينه، ثم إنه دعا الناس لزيارته وقال لجنوده: من عاب منه شيئًا فأصلحوه وأتوا به إليّ, فكان الناس يطوفون في هذا القصر وينظرون إلى غرفاته وشرفاته وحدائقه ونقوشه مبهورين بجماله مندهشين لروعته، فلم يجدوا عيبًا، وهكذا جماعة بعد جماعة وفوج بعد فوج، فكان حراس الملك يسألونهم: هل وجدتم عيبًا في هذا القصر قالوا: لم نجد عيبًا, ثم إنه جاء رجل في آخر الناس من بلاد بعيدة عليه آثار السفر, فطاف بالقصر ورأى ما فيه فلما هم بالخروج من ذلك القصر، سأله الجنود: هل وجدت فيه عيبا؟ فقال الرجل: لقد وجدتُ فيه عيبين، فأعلنت حالة الطوارئ وقالوا: إن الملك ما كان ليرضى بعيب واحد وأنت وجدت عيبين... وأخذ الرجل إلى الملك فسأله ما هما؟! قال: أيها الملك، العيب الأول: إن هذا القصر لا بد أن يأتي عليه يوم ويتهدم ويعتريه الخراب ويفنى, والعيب الثاني: أن صاحب هذا القصر لا بد أن يأتي عليه يومُ يموت فيه، فبكى الملك، وذكر حاله ومآله وتقصيره، وقال لمن حوله: دلوني على قصر لا يهدم ولا يموت صاحبه، قالوا: إن هذا -أيها الملك- لا يكون إلا في الجنة.
ودلالة ذلك أن الله هو الباقي -سبحانه وتعالى- وغيره إلى زوال, فلا يتعلق العبد بشيء من حطام الدنيا, بل يتعلق بما عند الله وما عند الله خير وأبقى, ولذلك ينادي -سبحانه- يوم القيامة: "لمن الملك اليوم؟! فيقول: "لله الواحد القهار"، وهذا النداء حقيقة ما ينكشف للأكثرين في ذلك اليوم إذ يظنون لأنفسهم ملكا، أما أرباب البصائر فإنهم مشاهدون لمعنى هذا النداء، يؤمنون بأن الملك لله الواحد القهار أزلًا وأبدًا.
قال أبو البقاء الرندي:
أَيْنَ المُلُوكُ ذَوُو التِّيجَانِ مِنْ يَمَنٍ | وَأَيْنَ مِنْهُمْ أَكَالِيلٌ وَتِيجَانُ؟ |
وَأَيْنَ مَا شَادَهُ شَدَّادُ فِي إِرَمٍ؟ | وَأَيْنَ مَا سَاسَهُ فِي الفُرْسِ سَاسَانُ؟ |
وَأَيْنَ مَا حَازَهُ قَارُونُ مِنْ ذَهَبٍ | وَأَيْنَ عَادٌ وَشَدَّادٌ وَقَحْطَانُ؟ |
أَتَى عَلَى الكُلِّ أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ | حَتَّى قَضَوْا فَكَأَنَّ القَوْمَ مَا كَانُوا |
وَصَارَ مَا كَانَ مِنْ مُلْكٍ وَمِنْ مَلِكٍ | كَمَا حَكَى عَنْ خَيَالِ الطَّيْفِ وَسْنَانُ |
أيها المسلمون: وإذا علم العبد بأن الله هو الباقي وحده دون غيره فإن هناك آثارٌ إيمانية تتجلى في حياته وآخرته، من ذلك:
ألا يصرف العبد شيء من طاعاته وعبادته إلا له -سبحانه-؛ فيتقرب أليه بشتى أنواع الطاعات والعبادات, قال -تعالى-: (والباقيات الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].
ومن ذلك: أن العبد إذا أدرك حقيقة الحياة وأنها فانية بما فيها من نعيم فلا يغتر بما فيها, ويعمل جاهدًا لما هو خير وأبقى عند الله, من نعيم مقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدًا فيها أبدا؛ قال -تعالى- (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى 16/17], قال الفضيل -رحمه الله-: "لو كانت الدنيا من ذهب يفنى, والآخرة من خزف يبقى؛ لكان ينبغي لنا أن نختار خزفًا يبقى على ذهب يفنى، فكيف وقد اخترنا خزفًا يفنى على ذهب يبقى".
ومن الآثار الإيمانية لاسم الله "الباقي": أنه ينفث في روع المؤمن وخلده الإيمان والقوة والعزة؛ فلا يبيع دينه ولا قيمه ولا مبادئه من أجل فتات من الدنيا زائل, ولا يطلب ما عند الناس بالحرام؛ قال الله -تعالى-: (ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى)[طه:131].
ويتوجه إلى الله في كل وقت وحين ويلجأ إليه ويرضى بما عنده, إن سحرة فرعون رغم الإغراء ثم التهديد والوعيد علموا بأن الله هو الباقي, وأن ما عند الله خير وأبقى مما عند فرعون, الذي كان يمتلك القصور والجيوش والذهب والفضة والانهار والأنهار والديار والمنصب والجاه لكنهم (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه:72-73].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا والصلاة والسلام على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وبعد:
عباد الله: لا يزال العبد يصيبه الهم والقلق وتضطرب نفسه حتى يستقر الإيمان بأسماء الرب -تعالى- في قلبه، فحينئذ ينشرح قلبه ويأنس بقرب ربه -سبحانه-, ويحيى حياة طيبة ويصبح لا يأنس ولا يطمأن إلا بذكر الله -تعالى- وذكر أسمائه وصفاته، فيأتيه من عظيم النعيم واللذة والسرور ما يعجز عن بيانه التعبير ويقصر عن وصفه التقرير, يقول ابن القيم: "وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره, الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله, فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان وانشراح الصدر له وفرح القلب به؛ فإنه معرف من معرفات الرب -سبحانه- إلى عبده على لسان رسوله, فلا يزل القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب؛ حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه, فينزل ذلك عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش؛ فيطمئن إليه ويسكن إليه ويفرح به ويلين له قلبه ومفاصله".
فتدبروا -رحمكم الله- أسماء الله وصفاته كما أراد سبحانه واملؤوا قلوبكم اخلاصًا إخلاصًا وحبًا وتعظيمًا لله -تعالى- المتفرد بالبقاء والعظمة والكبرياء، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، فكل شيء مفتقر إليه وهو الغني على الدوام.
وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وثلَّث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].