الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | خالد بدير بدوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
إن الإسلام في دعوته إلى حفظ النفس حرّم كل الطرق المؤدية إلى هلاك النفس وقتلها؛ فحرَّم الاعتداء على الآخرين وإتلاف أنفسهم، أو بعضها، وأوجب القصاص وبيَّن أن فيه حياةً للناس، وأوجب الدية لمن لا يريد القصاص، وأوجب الدية في قتل شبه العمد والخطأ، وهي كفارة مغلظة. بل نهى عن الإشارة بحديدة أو بسلاح أمام المسلم ولو كان مزاحًا،...
الخطبة الأولى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
خلق الله الإنسان في هذا الكون ليعمره ويكون خليفة عن الله في أرضه؛ ووهبه الله نعمًا وأمره أن يقوم عليها ويرعاها ويحفظها ولا يعتدي عليها بأيّ أنواع الاعتداء؛ ومن المعلوم أن نفس الإنسان ليست ملكًا له على وجه الحقيقة، وإنما هي بمثابة الوديعة أو العارية عنده؛ لأنها ملك خالقها وهو الله -جل جلاله-، وليس من حق الإنسان وهو بمثابة الوديع أو المستعير إتلاف ما استودعه الله إلا إذا أذِن له الله -تعالى- بذلك كما في الجهاد.
إن النفس إحدى الضرورات الخمس التي أوجب الشارع حفظها؛ يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: "ومجموع الضرورات خمس هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، هذه الضرورات إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعمة، والرجوع بالخسران المبين".
لذلك أمرنا الإسلام بحفظ النفس وعدم الاعتداء عليها فقال: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[البقرة:195]؛ وقال: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء:29]؛ وقد عد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل النفس من الموبقات حيث قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ"(صحيح البخاري).
قال عبد الله قادري: "وقد سمى الاعتداء على هذه الأمور موبقًا أي: مهلكًا، ولا يكون مهلكًا إلا إذا كان حفظ الأمر المعتدى عليه ضرورة من ضرورات الحياة". لذلك توعد الله من قتل نفسه بعظيم العقوبة في الآخرة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا؛ وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا؛ وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا"(متفق عليه)؛ فدل هذا الحديث على أن من أقدم على قتل نفسه بارتكاب أحد الأفعال الواردة في هذا الحديث أو ما كان في معناها فإن عقوبته العذاب في جهنم بنفس الفعل الذي أجهز به على نفسه، فمن ألقى نفسه من مكان عال مرتفع أو موقع شاهق، أو ضرب نفسه بحديدة كالسيف أو السكين أو المسدس أو نحو ذلك، أو تناول مادة من المواد السامة القاتلة فأدى ذلك كله إلى موته؛ فإنه يعذب في النار بفعلته الشنعاء التي أقدم عليها.
إن هؤلاء ظنوا بفعلتهم الشنعاء أنهم يستريحون من عناء الدنيا ونصبها؛ ولكنهم انتقلوا من عذاب إلى أشد منه؛ لأن الذي يقتل نفسه يعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالداً فيها أبداً.
إن الإسلام -في أمره بالدعوة إلى حفظ النفس- يذهب إلى أدق من ذلك؛ فنهى حتى عن تمني الموت؛ ولا شك أن النهي عن الأدنى من باب الترقي في النهي؛ وفيه دلالة على جرم وعظم الجريمة العليا وهي إزهاق النفس بأي صورة. فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي"(متفق عليه)؛ وإذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى أن يتمنى الإنسان الموت للضر الذي نزل به فكيف بمن يقتل نفسه إذا نزل به الضر؟!
أيها المسلمون: إن الإسلام في دعوته إلى حفظ النفس حرّم كل الطرق المؤدية إلى هلاك النفس وقتلها؛ فحرَّم الاعتداء على الآخرين وإتلاف أنفسهم، أو بعضها، وأوجب القصاص وبيَّن أن فيه حياةً للناس، وأوجب الدية لمن لا يريد القصاص، وأوجب الدية في قتل شبه العمد والخطأ، وهي كفارة مغلظة.
بل نهى عن الإشارة بحديدة أو بسلاح أمام المسلم ولو كان مزاحًا، وحرم الاعتداء على النفوس المعصومة من غير المسلمين كالذمي والمستأنس والمعاهد، وأوجب في قتلها الدية والكفارة بل حتى الاعتداء على أطراف الميت بتقطيعها وسلبها، أو بيعها، وربط الشرع إقامة القصاص بالحاكم؛ لئلا يتلاعب الناس بالقصاص، وأمر الشرع بالإصلاح بين المتخاصمين والمتقاتلين؛ لئلا تزهق النفوس وتراق الدماء، ودرأ الحدود بالشبهات، وكل هذه الأحكام لو فصلت وترجمت للكفار لحصل فيها خير كثير ليعلموا أن دين الله كامل حق واضح يحفظ الأنفس ويراعي مصالح الناس في كل زمان ومكان.
عباد الله: إن الإسلام في رعايته للنفس وحفظها من الهلاك يذهب إلى أبعد من ذلك؛ فأمر بحفظ أنفس البهائم المعجمة والدواب والطيور؛ وأمر بالرفق بها؛ وتوعد من قتل عصفوراً عبثا بعذابٍ أليمٍ؛ وأمر بإحسان الذبح والقتل.
عباد الله: هناك عدة أسباب في واقعنا المعاصر تدفع الأشخاص إلى عملية الانتحار، وتتلخص هذه الأسباب فيما يلي:
أولاً: ضعف الوازع الديني عند الإنسان، وعدم إدراك خطورة هذا الفعل الشنيع والجريمة الكُبرى التي يترتب عليها حرمان النفس من حقها في الحياة؛ وهذا نتيجة عدم اكتمال معالم الإيمان في النفس البشرية؛ إذ إن الإيمان الكامل الصحيح يفرض على الإنسان الرضا بقضاء الله -تعالى- وقدره، وعدم الاعتراض على ذلك القدر مهما بدأ للإنسان أنه سيءٌ أو غير مرضِ ؛ ولا شك أن الانتحار لا يخرج عن كونه اعتراضاً على واقع الحال ودليلاً على عدم الرضا به.
ثانيًا: اشتغال النفس بحال الآخرين ومراقبتهم والغفلةُ عن نفسه، وانشغالهُ بالآخرين يوقعه في محاذير ومخاطر كثيرة، منها تركه نفع نفسه والوقوع فيما لا يعنيه، والصواب والسنة والخير والراحة في تركه ما لا يعنيه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(الترمذي وابن ماجه)؛ وليس تركه ما لا يعنيه فحسب؛ بل عليه أن يحرص على كل ما ينفعه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ؛ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ؛ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"(صحيح مسلم)؛ فينبغي على الإنسان أن ينظر إلى من هو دونه في أمر دنياه؛ وإلى من هو فوقه في أمر دينه؛ فإن فعل ذلك نال القناعة ورضا مولاه.
ثالثًا: غلبة الظن الخاطئ عند المنتحر أنه سيضع بانتحاره وإزهاقه لنفسه حدّاً لما يعيشه أو يُعانيه من مشكلاتٍ أو ضغوطٍ أو ظروف سيئة، فيظن المنتحر أنه سيترك الشقاء والتعب، وسيجد الراحة بعد قتل نفسه، ولم يدرِ ماذا وراء القبر، والمرحلةَ التي هو مقبلٌ عليها، إنها الشقاء الطويل والعذابُ الأليم الذي يهون أمامه كَبَدُ الدنيا ونصبها؛ وهذا -الظن- مفهومٌ خاطئٌ ومغلوطٌ وبعيدٌ كل البُعد عن الحقيقة؛ كما ذكرنا في عنصرنا السابق.
رابعًا: المشاكل والهموم والغموم بجميع صورها من كثرة الديون والمشاكل الاقتصادية والزوجية والجهل والجزع وعدم الصبر، والاستسلام لليأس والقنوط وما يؤدي إلى ذلك من الهواجس والأفكار والوساوس.
خامسًا: إن بعض الشباب له طموحاتٌ تعانق السحاب؛ لكنه في الوقت نفسه لا يقدّم عملاً، أو أنه يكدّ ويكدح ويلهث ولكن دون المستوى الذي يؤمله، فيصاب هو الآخر بإحباط، فيوحي إليه الشيطان أن الحل الأفضل له التخلص وسرعة الخروج من هذه الدنيا.
أحبتي في الله: كنت أود أن أذكر لكم قصة لكل لونٍ من هذه الأسباب المذكورة آنفاً من واقعنا المعاصر تؤيد ما قلناه؛ ولكني أعرضت عن ذلك حتى لا يكون دعوة للآخرين ونشراً للفساد ولظاهرة الانتحار في المجتمع أو يقتدي بذلك الآخرون.
عباد الله: إن الانتحار لا يحدث إلا من نفس مريضة بعيدة عن فعل الطاعات، غارقة في فعل المعاصي والمنكرات، موحلة في اقتراف الشُّبَه والمخالفات، آيسة مما عند خالقها من الرحمة والخيرات، وإن قلب المنتحر فارغ من الإيمان الذي يحيي القلوب ويوقظها من غفلتها ويعيدها إلى طريق الصواب وجادة الحق للتزود من الأجر والثواب.
فلقد ضاقت صدور كثير من العباد اليوم بسبب كثرة الماديات، ومشاهدة الفضائيات، والإسراف في المحرمات والسيئات، والاقتصاد في الطاعات والحسنات، فحصلت تلك الآهات، وكثرت تلك الصرخات، بل وحصل أدهى من ذلك وأمر، فصارت الوسوسة حتى أن البعض يفكر كيف يتخلص من نفسه جراء الضيق والحسرة والوحشة التي يعيشها، فلا طعم للحياة عنده، ولا هدف ولا غاية يرى أنه من أجلها خلق، وكل ذلك بسبب الابتعاد عن المنهج القويم والصراط المستقيم، وحصلت الوسوسة حتى في العبادة، فلم يدرِ كم صلى أثلاثاً أم أربعاً؟ وفي الوضوء أغسل ذلك العضو أم لم يغسله؟ بل وأصبح البعض يوسوس حتى في أهل بيته، أهذه الزوجة عفيفة نقية؟ أم غير ذلك؟ فالحاصل أن الوسوسة سيطرت على بعض الناس سيطرة تامة حتى أنه لا يجد للراحة طعماً، ولا يغمض له جفناً، ولا يرى للوجود سبباً، وكل ذلك بسبب الاستسلام للشيطان وما يسببه من أوهام، وسفيه الأحلام.
عباد الله: إن علاج ظاهرة الانتحار لا يمكن أن يتم إلا بالعودة الصادقة إلى الله -تعالى- والالتزام الصادق بما أمر الله به من أقوالٍ وأعمالٍ وأوامر ونواهٍ جاءت في مجموعها مُمثلةً لدور التربية الإسلامية ومؤسساتها الاجتماعية المختلفة في تحصين الفرد وحمايته من هذا الانحراف السلوكي الخطير عن طريق الوسائل التالية:
أولاً: محاولة تفهم الظروف والأسباب التي قد تدفع بعض أفراد المجتمع إلى محاولة الانتحار، ومن ثم العمل على مد يد العون لهم، ومساعدتهم في حلها؛ فلو أن كل المؤسسات والهيئات المعنية عملت على حل المشاكل التي بداخلها لقُضِيَ على هذه الظاهرة؛ لأن العلاج هو معرفة الداء واستئصاله من جذوره؛ وبذلك يتم القضاء على أسباب هذه الظاهرة ودواعيها بإذن الله؛ أما أن نترك أصحاب المشاكل والمصائب والهموم دون أن نضع لهم حلاً وعلاجًا؛ فكأنما ألقيناهم في اليمّ مكتوفين وقلنا لهم: إياكم إياكم أن تبتلوا بالماء!!
ثانيًا: مراقبة الله -تعالى- في مختلف الأعمال والأقوال، وفي كل شأنٍ من شئون الحياة عند الإنسان؛ إذ إن من راقب الله -تعالى- وخافه واتقاه لن يستحوذ عليه الشيطان، ولن يلقي بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه يعلم أنه سيُسأل عن ذلك أمام الله -تعالى-؛ فالإيمان يجعل صاحبه شديد التعلق بخالقه، يلجأ إليه في الشدائد والملمات، فإذا ما أحسَّ بضائقة أو وقعت عليه مصيبة أو نزلت به مشكلة تؤرقه فإنه يعلم ويدرك أن ربّه مُفرِّجٌ ما هو فيه من الكربات، وميسِّرٌ ما يمر به من المعسرات، ومسهّل ما يعيشه من الصعوبات. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:2،3]؛ أما إذا أعرض عن أوامره واتبع سبل الشيطان فإنه يعيش في ضنك من العيش: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى؛ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ؛ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى؛ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)[طه:124- 127].
ثالثًا: زيادة جرعات التوعية اللازمة لأفراد وفئات المجتمع عن طريق مختلف الوسائل الإعلامية والتعليمية؛ لبيان خطر جريمة الانتحار وبشاعتها، وما يترتب عليها من نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة سواء على الفرد أو المجتمع.
رابعًا: التحلي بالصبر؛ فليس كل ما يصيب الإنسان من شوكة يهرع إلى إزهاق روحه؛ فالدنيا دار اختبار وابتلاء وامتحان؛ ولقد أوذي الأنبياء والصالحون وعاشوا في ضيقٍ من العيش حتى شدوا على الحجارة على بطونهم وما صرفهم عن دينهم شيئا؛ فعن خَبّاب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا، فَقَال -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"(صحيح البخاري)؛ وليعلم المؤمن أن حاله كله خيرٌ في سرائه وضرائه فهو إما صابر وإما شاكر؛ فقد جمع الإيمان بنصفيه الصبر والشكر؛ فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(صحيح مسلم)؛ وأنت ترى في الراويين لهذين الحديثين –خباب وصهيب- صبرًا وشكرًا؛ فهما مِن أول مَن أظهر الإسلام وتحملا ألوان التعذيب حتى أوصلا إلينا الرسالة؛ فلنقارن حالنا بأحوالهم!
أما إذا لم يصبر الإنسان على ما فيه من شدة وألم ونوائب فإنه يجتمع عليه أمران: أولهما: الشدة والألم والتعب والنصب في الدنيا؛ وثانيهما: العذاب الشديد في الآخرة؛ وبذلك خسر دنياه وأخراه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حُنَيْنًا فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يُدْعَى بِالْإِسْلَامِ "هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ" فَلَمَّا حَضَرْنَا الْقِتَالَ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ لَهُ آنِفًا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِلَى النَّارِ"؛ فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: "أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ" (متفق عليه).
خامسًا: احتساب الأجر عند الله؛ فينبغي على صاحب الأقدار والمصائب أن يحتسب ما هو فيه عند الله؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"(صحيح البخاري)؛ وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)[النساء:123]؛ فكل سوء عملناه جزينا به؟! قال: "غفر الله لك يا أبا بكر"، قاله ثلاثا، "يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تحزن، ألست تنصب، ألست تصيبك اللأواء؟" قلت: نعم، قال: "فهو ما تجزون به في الدنيا"(رواه أحمد والحاكم وصححه).
سادسًا: القناعة والرضا: فلو أن الإنسان قنع ورضي بما قسم وقدّر له؛ لعاش في سعادة ورخاء؛ وإلا عاش في سخط؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ؛ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ"(رواه الترمذي وابن ماجه)؛ وكما قيل: "القناعة كنز لا يفنى".
هذه أهم سبل العلاج لظاهرة الانتحار؛ وإننا لو طبقنا هذه الحلول على أرض الواقع لاقتلعنا جذور هذه الظاهرة من أساسها؛ وعشنا في سلام وأمان واطمئنان وسعدنا برضا الرحمن.
نسأل الله -تعالى- أن يحفظنا جميعاً من كل شر، وأن يوفقنا إلى طاعته، وأن يرزقنا حياةً طيبةً، وأن يحفظنا وبلادنا وشبابنا من كل مكروه وسوء؛ وأن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة.