القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الإيمان بالله |
ليس كل مجرد التقاء بين الرجال والنساء اختلاط محرم؛ فالمرأة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- تمر في الطريق، وتقضي حوائجها، وتمشي في السوق مثلاً، وليس هذا بالاختلاط المنهي عنه، إنما المنهي عنه هو الالتقاء المستقر الذي يطول وقته؛ لأنه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي اهتدى بهديه المهتدون، وضلّ بعدله وحكمته الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها المؤمنون: يقول -تعالى-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[القصص:23]؛ يشير السياق إلى أنَّ هاتين المرأتين خرجتا للعمل في السُّقيا للضرورة؛ قالتا: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)، ومع هذا فلا تريدان الاختلاط بالرجال حتى لا تتعرَّضان للفتن، فالمرأة إذا اضطرت إلى الخروج للعمل فإنها تحتاط، ومن وسائل الاحتياط: أن تَسنُد نفسها بامرأة أخرى تجنبًا للشبهة والخلوة وحماية لها من الأذى. (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)[القصص:25]؛ لم تتكشَّف ولم تتبرَّج؛ فأين هذه المشاهد العظيمة من الحياء والعفة والبعد عن الاختلاط بالرجال مما ينادي به العلمانيون من الاختلاط وكسر الحواجز بين الجنسين؟.
إنَّ من قواعد الشرع المطهر أن الله -سبحانه- إذا حرَّم شيئًا حرَّم الأسباب المفضية إليه، ولما كان الزنا من أعظم الفواحش وأقبحها حرم الله أسبابه وطرقه، ومن أعظمها: اختلاط النساء بالرجال.
عباد الله: الاختلاط بين الجنسين حرام دلَّ على ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة، منها:
قوله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقلوبهن)[الأحزاب:53]؛ فإذا كان الحجاب وعدم الاختلاط أطهر لقلوب أمهات المؤمنين وخيار الصحابة -رضي الله عنهم- فمَن بعدهم أحوج إلى ذلك.
وقال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: "الْحَمْوُ الْمَوْتُ"(متفق عليه)، وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنِّسَاءِ: "اسْتَأْخِرْنَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافاتِ الطَّرِيقِ"؛ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ"(أخرجه أبو داود وحسَّنه الألباني).
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرص على التباعد بين الرجال والنساء حتى في أماكن العبادة، ونظَّم الخروج من المسجد؛ فتخرج النساء أولاً بعد السلام مباشرة قبل الرجال، وبيَّن كيف يكون الحال إذا تقابل رجال ونساء في الطريق، كل هذا في الحضور للمسجد، وفي زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنساء في غاية الحشمة والحجاب!.
ومن أدلة حرمة الاختلاط: سدُّ الذرائع، بالنظر إلى الآثار السلبية المترتبة عليه؛ من الاعتياد والإلف، وكسر الحواجز بين الجنسين، وضعف الحجاب، والوقوع في التبرُّج من بعض النساء، ناهيك عن سلسلة طويلة من التحرش بالعاملات أو الطالبات أو المريضات.
أيها الأحبة: إن من مظاهر الاختلاط التي يجب التنبيه عليها:
الاختلاط في أماكن العمل في المؤسسات والشركات، والاختلاط في المستشفيات في اجتماعات الأقسام الطبية، وفي المحاضرات والندوات، بل جرى التقليد الأعمى أنَّ لكلِّ مدير سكرتيرة في مكتبه، ولكل طبيب ممرضة في عيادته، ناهيك عن تطبيب الرجل للمرأة والمرأة للرجل دون ضرورة لذلك.
ومن المظاهر: اختلاط الذكور والإناث في المضاجع، ولو كانوا إخوة؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
أيها المسلمون: ومع وضوع حكم الشرع في حرمة الاختلاط؛ إلا أن البعض يورد بعض الشبه؛ فمن ذلك:
زعمهم أن الاختلاط جائز؛ لأنه موجود في الطواف حول الكعبة!. والجواب عن هذه الشبهة: أن الطواف بالبيت لم يكن مختلطاً في زمنِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل الظاهر أن النساء كن يطفن وحدهن دون الرجال، نقل ابن حجر أن عمرَ -رضي الله عنه- نهى أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهن فضربه بالدرَّة، وسُئل عطاءُ ابنُ أبي رباح عن اختلاطِ نساءِ النبي -صلى الله عيه وسلم- بالرجال في الطواف فقال: "لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ" أي: معتزلة في ناحية.
وتصرفات الناس إذا خالفت الأدلة لا يحتج بها، بل يحتج عليها، فهل طواف الناس اليوم دليل شرعي، حتى ينسف الأدلة السابقة التي دلت على تحريم الاختلاط؟!.
وقد ذكر العلماء أن حالة الناس في المسجد الحرام حالة ضرورة؛ لكثرة الناس؛ فالاختلاط غير مقصود.
ثم إنه ليس كل مجرد التقاء بين الرجال والنساء اختلاط محرم؛ فالمرأة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- تمر في الطريق، وتقضي حوائجها، وتمشي في السوق مثلاً، وليس هذا بالاختلاط المنهي عنه، إنما المنهي عنه هو الالتقاء المستقر الذي يطول وقته؛ لأنه محل الفتنة، كأن يكون محصورًا في مكان معين، كأماكن العمل وفصول الدراسة، وهذا بحمد الله ظاهر للعاقل المنصف.
ثم لو سلمنا جدلا على صحة قياسهم الفاسد؛ فلا يمكن التسليم بالمقارنة بين جلوس المرأة لساعات طويلة مع الرجال في مكتب واحد، وبين امرأة تصلي أو تطوف في الحرم، وهل يقول هذا الكلام إلا جاهل أو مفتون!.
ومن شبهاتهم على جواز الاختلاط: مداواةُ النساء للجرحى من الرجال في الجهاد، وهذه شبهة باطلة؛ لأن هذه المداواة من باب الضرورة، قال ابنُ حجر: "جوازُ معالجةِ المرأةِ الأجنبيةِ الرجلَ الأجنبيَ للضرورة".
ومن شبهاتهم في الدعوة إلى الاختلاط في التعليم للصغار: أن المرأة أحسن معايشة للصغار وأقدر على التعامل معهم، وأنهم مجرد أطفال لا يضرهم ذلك ولا يؤثر عليهم، وهذا أمر باطل بشهادة المختصين؛ فالطفل يبدأ في التفتح والتطلع إلى المعرفة من السنة السادسة وهذا أمر ثابت بالتجربة، وتجربة المجتمعات المجاورة تثبت أن هذه الدعوى مجرد خطوة تتبعها خطوات؛ لتعميم الاختلاط في المراحل الدراسية المختلفة، وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي أن الاختلاط في بعض الدول الإسلامية بدأ بالاختلاط في رياض الأطفال، وبين -رحمه الله- أن أصول العقائد والأخلاق تغرس في العقل الباطن للإنسان في السنوات الست الأولى من عمره؛ فإذا عوّد على الاختلاط، نشأ عليه، وكبر معه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا تبي بعده، وآله وصحبه ومن تبعه، وبعد:
عباد الله: ومن شبهات دعاة الاختلاط: زعمهم أن المرأة الشريفة تستطيع أن تحفظ نفسها بين الرجال إذا اختطلت بهم، وتلك خديعة كبرى، نعم التربية مهمة، لكن لا يعني ذلك أن نرمي بأنفسنا إلى التهلكة، نحن بحاجة إلى الأمرين معا؛ بحاجة إلى التربية والإقناع بأهمية خلق العفة والحفاظ عليه، وبحاجة إلى درء الفتنة بمنع الاختلاط بين الجنسين؛ فهو باب للشر، وحبل من حبائل الشيطان.
قال ابن القيم: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنى".
وتقول الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك: "على قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى"، وتقول طبيبة غربية: "أعتقد أنه ليس في الإمكان قيام علاقة بريئة من الشهوة بين رجل وامرأة ينفرد أحدهما بالآخر أوقاتًا طويلة، وكنت أسأل بعضهن ممن يتمتعن بالذكاء كيف أمكن أن يحدث ذلك؟ -أي: الوقوع في الفاحشة-، فكانت الفتاة تجيب: لم أستطع أن أضبط نفسي".
فالعاقل لا يلقي إنسانـًا وسط أمواج متلاطمة، ثم يطلب منه أن يحافظ على ثيابه من البلل، أو يلقيه وسط نيران متوقدة، ثم يطلب منه أن لا يحترق!.
ويصدق على هذا قول أحدهم:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له | إياك إياك أن تبتل بالماء |
ومن شبهاتهم ومغالطاتهم: دعوى أن الاختلاط والسفور من مظاهر الثقافة والرقي!.
ويقال لهم: أين أنتم من الدول العربية التي أقرت الاختلاط منذ عشرات السنين؟! مازالت ترزح تحت وطأة التخلُّف وتصنف في دول العالم الثالث، هل انتهت قضايا المرأة وحقوقها ولم يبق إلا هذه القضية؟! أين هي المصلحة في الاختلاط؟!.
ومن أعجب شبهاتهم: زعمهم أن الاختلاط يخفف الشهوة والدافع الجنسي، أما الكبت فإنه يولد الانفجار!.
والمتأمل بعين البصيرة يجد أن الاختلاط يزيد في إثارة الدافع الجنسي، ولقد ظهر في المجتمعات الغربية التي فشا فيها الاختلاط أنهم لم يزدادوا إلا شهوانية، وسعارًا بهيميـًا؛ حيث ارتكبوا الفواحش، وهتكوا الأعراض والإحصائيات خير شاهد على ذلك؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية بلغت نسبة خيانة الأزواج إلى 50- 70%؛ كما وصلت خيانة الزوجات إلى 32%، وبلغت نسبة المتزوجات بدون عذرية إلى 90%.
فهل يريد دعاة التحرير والتغريب بعد كل هذا أن تصل مجتمعاتنا إلى هذه الحال؟!.
ولذا قالت الصحفية الأمريكية هيليان ستاتبري في زيارة لها لمصر: "أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، امنعوا الاختلاط وقيِّدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا لعصر الحجاب؛ فهذا خير لكم من إباحية ومجون أمريكا".
نسأل الله أن يكفي البلاد والعباد شرهم وخطرهم.
وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم الله في كتابه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].