القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كم مِنَّا الآن يحرَصُ على تعليم صغاره أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يُعلِّم الصغار أخبار الأنبياء، ويزرع في قلوبهم محبتهم، ويعلمهم طريقتهم في اللجوء إلى الله، وأنه هو الحافظ من كل سوء، وأن كلمات الله التامة تدحر الشيطان ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
صغارنا ونشأنا، أليس لهم حق علينا؟ بلى والله! يقول -صلى الله عليه وسلم- "ألا كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤول عن رعيته".
أيها المسلمون: إن من أولى المسئوليات والحقوق التي سوف نُسأل عنها يوم القيامة حقَّ تربية صغارنا وناشئتنا على طاعة الله وتعظيمه ومحبته، حق تربيتهم على توقيره في نفوسهم وتصرفاتهم.
إن توحيد الله -أيها الإخوة- هو رأس الأمور، وأصل الأصول؛ فمِن أجله خُلق الناس، وبعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وكُتب النعيم المستديم في جنات عدن؛ ولذلك يقال: ما أغفل الإنسان إذا غفل عن تربية صغاره على تعظيم الله!.
بل حتى أولئك الذين يعتنون بالسلوك والأخلاق، ويسهبون في تدريب الصغار على الآداب الاجتماعية كآداب الطريق والمسجد والمنزل، وآداب الأكل والنوم، أو ما يتعلق بالحقوق العائلية كحق الوالدين وحق القرابة، وهذا كله من الخير، إلا إنهم في غمرة هذا التركيز قد يهملون جانب تعظيم الله في نفوس الصغار.
ومع الوقت يفقد الصغار كثيراً مما تعلموه من الآداب. ما السبب؟ السبب هو غياب المبدأ الذي تبنى عليه تلك الآداب، هو غياب الوازع العقدي الإيماني الذي من شأنه غرس محبة الله تعالى، ورجاء جنته والخوف من سخطه وعقابه في قلوبهم عند تدريبهم على تلك الآداب.
معاشر الإخوة: لِنَرَ الآن كيف كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعنى أشد عناية بغرس توحيد الله وتعظيمه وإفراده بالتوكل في قلوب الناشئة أثناء تربيته لهم، ها هو -صلى الله عليه وسلم- يوصي ابن عباس -رضي الله عنهما- وكان عُمْر ابن عباس آنذاك دون البلوغ، وكانت وصيته -صلى الله عليه وسلم- له وصية عقدية عظيمة تضمنت في كلماتها ومعانيها أصول التوحيد والآداب.
يقول ابن عباس: كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: "يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي رواية: "احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".
تأملوا في هذه الوصايا العظيمة يا إخوة! يقولها النبي -صلى الله عليه وسلم- لغلام صغير، تضمنت توحيد الله وتعظيمه في أكثر من جانب، ففيها الوصاية بحفظ أمر الله امتثالا لأمره ونهيه، ومَن حفظ ذلك حفظه الله في أموره كلها.
هذه تربية نبوية لهذا الناشئ على مراقبة الله، واستشعار اطلاعه وإحاطته بكل شيء، وقدرته على حفظ العبد الصالح من كل سوء؛ ثم أوصاه بسؤال الله واستعانته به بتحقيق مطالبه، وقضاء حوائجه: "إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، فالتوكل على الله تعالى عقيدة لا تكاد ترى لها وجودا في العالم المادي، الكل إلا من رحم الله يعتمد قلبُه على ماله أو على ذكائه أو على جاهه أو على تدبيره، لكنه لا يعتمد على الله!.
ولذلك أَتْبَعَ -صلى الله عليه وسلم- هذه الوصية بما يعضدها، أتبعها بترسيخ الإيمان بأن المقادير كلها بيد الله تعالى، فقال له: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفَّت الصحف". إذاً يا بني مهما اجتمع الخلق وأرادوا أمراً لك فلن يصيبك نفع أو ضر إلا ما كتب الله لك أو عليك.
وفي الرواية الأخرى يقول له "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". أي: يا بني، إن من لزم طاعة الله تعالى في حال الرخاء فلن يخذله الله في حال الشدة. إن إحسان الظن بالله شعور ضروري لكل إنسان، لاسيما مَن هم في مقتبل العمر ممن يعيشون فترة الحيرة، فهم في حاجة ماسة إلى ركن شديد يثقون به وبإعانته. تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، هكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يربي الناشئة على الصلة بالله توكلا ومراقبة وتعظيما وثقة.
ومن عنايته بتأسيس التوحيد في الصغار ما أخرجه الترمذي عن أبي رافع قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الحسن بن علي حين ولدته فاطمة -رضي الله عنها-. قال ابن القيم -رحمه الله-: وسِرّ التأذين أن يكون أول ما يقرع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلَقَّنُ كلمة التوحيد عند خروجه من الدنيا.
وتأملوا كيف يعلم -صلى الله عليه وسلم- الحسَن وهو غلام صغير دعاءَ القنوت، كما ورد في مسند الإمام أحمد وفي السنن: "اللهم اهدني فيمـن هديت، وعافني فيمـن عافيت، وتولَّني فيما توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضى بالحق ولا يقضى عليك، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لا منجا منك إلا إليك".
ها نحن نقوله في رمضان وغير رمضان، هذا هو دعاء علمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي وهو غلام صغير، دعاء فيه من المعاني الإيمانية العظيمة التي تؤكد على توحيد الله في الدعاء وفي المسألة وفي التفويض وفي التعظيم. كم كان عُمر الحسن آنذاك عندما علمه هذا الدعاء؟ إذا كان مولد الحسن بن علي -رضي الله عنهما- في السنة الثالثة من الهجرة فيكون عمره عند موت النبي سبع سنين.
ومع صغر سنه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنه كان يعلمه ويلقنه تلك الكلمات العقدية الجامعة في تعظيم الله، وأنه المستحق للعبادة، وهو الذي يُتوجه إليه في الدعاء دون سواه، وأنه لا يملك النفع إلا الله، ولا يدفع الضر إلا الله، وأن قضاء الله نافذ، وأن العز لمن والاه، والذل لمن عاداه، وأن الافتقار إليه لا إلى غيره، وأنه لا مفر ولا منجا منه إلا إليه... إلى غير ذلك من عظيم المعاني.
كم منا الآن يحرص على تعليم صغاره أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم الصغار أخبار الأنبياء، ويزرع في قلوبهم محبتهم، ويعلمهم طريقتهم في اللجوء إلى الله، وأنه هو الحافظ من كل سوء، وأن كلمات الله التامة تدحر الشيطان.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعوِّذ الحسن والحسين ويقول لهما: "إن آباءكم كان يعوِّذ بهما إسماعيل وإسحاق"، "أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامة"
ومن عنايته -صلى الله عليه وسلم- بتحرير الصغار من عوالق الشرك تنبيهه وإنكاره متى ما ذل الصغير في مقام التوحيد خاصة، وفي غيره عامة، فقد سمع ذات يوم جويريات صغيرات في السن يضربن بالدف ويندبن من قُتل من آبائهن يوم بدر، فلما قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. قال لها -صلى الله عليه وسلم-: "دعي هذا وقولي بالذي كنتِ تقولين". سبحان الله!.
كيف يُنشئ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأطفال على خالص التوحيد، وعدم رفعه -عليه الصلاة والسلام- إلى مقام وصفات الإله، ويبتر هذا الغلو في حينه دون تأخير حتى ولو بدر من الصغار الأبرياء، بينما يهمل المسلمون هذا في كثير من المجتمعات.
وبسبب هذا الإهمال انغمس كثير منهم في ألوان من البدع والشركيات توارثوها أبا عن جد، نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، حتى اعتبرها الناس سنة حسنة في أصل الدين، وأصبحت واقعا وعرفا يصعب استئصاله!.
فيجب على من تولى تربية الناشئة أن يرسخ فيهم مبدأ تعظيم الله -عز وجل-، وتوحيده بالعبادة، وتنقية اعتقادهم من البدع والغلو؛ وفي الوقت ذاته يرسخ فيهم الشعور بسعة رحمة الله لمن أطاعه، ومحبته له، وإدخاله الجنة، وعقابه الشديد لمن عصاه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر:49-50].
كل ذلك بأسلوب لطيف مناسب للصغار يجمع بين الرحمة والتعليم، والترغيب والترهيب، ويُغلب جانب الترغيب والمحبة لحداثة سنهم، وأن يعظم في نفوسهم مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فيربيهم على أن الله تعالى يراهم ويعلم سرهم ونجواهم، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه:7]، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:119، المائدة:7، لقمان:23]، (وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [التغابن:4].
سيستشعر الشاب الصغير أن الله مطلع على ظاهره وباطنه، فإنه إذا رسخ في نفسه تعظيم توحيد الله تعالى والإيمان بصفاته صلح أمره، وقوي عزمه على الطاعة، وأحب فعل الخيرات، وفي المقابل نفر من المعاصي ومخازي الأخلاق، فيقوى عوده على هذا الأساس؛ حتى يصبح هذا السلوك فيه سجية طيبة غير متكلفة تقر بها أعين الوالدين: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].
جاء في وفيات الأعيان أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: بينما أبي يعس بالمدينة إذ سمع امرأة وهي تقول لابنتها: يا بنية، قومي فشوبي اللبن بالماء، فقالت: يا أماه أما سمعت منادي أمير المؤمنين أنه نادَى أنْ لا يُشاب اللبن بالماء؟ فقالت: وأين أنت من مناديه الساعة؟ فقالت: إذا لم يرني مناديه ألم يرني رب مناديه؟ - وفي رواية أخرى، قالت: والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا.
لمثل هذا المستوى من الإيمان الذي غمر قلب تلك الفتاة الصغيرة نريد أن نصل بالناشئة اليوم، وما ذلك على الله بعزيز.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن تربية النشء اليوم أصبحت عملية مشتركة، رضينا أم أبينا، هناك من يشاركوننا في تربية صغارنا، هناك الأصحاب والمدرسة والأقارب والفضائيات والانترنت والسفر إلى الخارج وغيرها من الأطراف والظروف.
فمسؤولية تربية الأولاد اليوم في العموم صعبة جداً، وتعتريها تحديات كبيرة، ومسؤولية تربيتهم على التوحيد وتعظيم الله بالذات أشد صعوبة؛ لكنها مع ذلك ليست مستحيلة، فالمطلوب من المربي قدرته واستطاعته لا أكثر ولا أقل، ابذل جهدك وأفرغ وسعك ووفر كل الأسباب المادية التي تقدر عليها، ولا تنس الدعاء والتضرع إلى الله أن يحقق لك أمانيك في أولادك.
أما الهداية والتوفيق فهما عند الله في السماء، لا أملكها أنا ولا أنت: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56].
وللحديث بقية إن شاء الله.