الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | سعيد بن عبد الباري بن عوض |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
وفي ظل هذه الجائحة العامة يتوجَّب على أصحاب الرأي والفكر ورجال المال والأعمال أن يستشعروا واجِبَهم الدينيَّ ومسئوليتَهم ورسالتَهم في مثل هذه الأحداث التي يُمتحن فيها الإيمانُ، وتتجسَّد فيها ومعها معاني الأُخُوَّة؛ لتخفيف آثار الأزمة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله مفرِّج الكروب، أحمده -سبحانه- وأشكره، شرَح الصدورَ وهدى القلوبَ، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، آياته تترى، مع كل شروق وغروب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، سَاقَ الأمةَ إلى خير الدروب، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبه، صلاةً دائمةً ترفع همَّ كل مكروب.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
القرآنُ عظيمٌ في آياته، قويُّ الدلالةِ في عِبَره وعِظاتِه، ينوِّر البصيرةَ، ويبيِّن سننَ الله في الكون والحياة والأحياء، ومن آياته قوله -تعالى-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[الزُّمَرِ: 62]، الله -سبحانه- خالِقُ كلِّ شيءٍ، كل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا والله خالِقُها، لا خالقَ غيرُه ولا ربَّ سِوَاه، وحين يقرأ المسلمُ قوله -تعالى-: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[الرَّعْدِ: 16]، تخضع نفسُه، ويخضع لكبرياء الله، الذي تتضاءل عند عظمتِه كلُّ عَظَمَةٍ، يتلو المسلمُ قولَه -تعالى-: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 2]، فيرى في مسار الكون دِقَّةً، وفي انتظام سَيْرِه إحكامًا، وفي تصريف أحوالِه جمالًا وإبداعًا، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[الْقَمَرِ: 49].
هيَّأ الخالقُ الكونَ بما يُصلِحه، فقدَّره تقديرًا، وهيَّأ كلَّ مخلوق لِمَا خُلِقَ له، يقرأ المسلمُ قولَه -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[الْقَصَصِ: 68]، فيتأمل كيف خلَق اللهُ أنواعَ الكائنات، وأشكالَ المخلوقات، ويرى في كل كائن تفرُّدًا عن غيره من الكائنات، في سبب الوجود والقِيمَة والمعنى، كما قال سبحانه: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النَّمْلِ: 88]؛ أَيْ: أتقَن كلَّ ما خلَق، وأحكَمَه، وأودَع فيه من الحكمة ما أودَع، يسمع المسلمُ قولَه -تعالى-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[الدُّخَانِ: 38-39]، فيُدرِك أن الله لم يخلق الكون عبثًا، ولن يترك الخَلْق سُدًى، وأن وراء هذا التدبير المحكَم مُدَبِّرًا حكيمًا ولقاءً أخرويًّا وجزاءً عادِلًا، وحين يتأمل المسلمُ قولَ الله -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ)[الرُّومِ: 40]، يَقَرُّ قلبُه، وتطمئنُّ نفسُه، فقد تكفَّل اللهُ برِزْقِه، مِنْ وافرِ خزائنِه التي لا تنفَدُ، ويعلم المسلمُ حين يقرأ قولَ الله -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[الْبَلَدِ: 4]، أن الحياة تعتريها المشاقُّ، وتشوبها المتاعبُ والأمراضُ، وتحفُّها الابتلاءاتُ، فيتجمَّل بالإيمان العميق والصبر الجميل، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 155].
وممَّا يقوِّي الصبرَ يقينُ العبدِ أن ما أصابه إمَّا أن يكون تكفيرًا لذنوبه، أو سببًا لنعمة لا تُنال إلا على جسر من المشقة والابتلاء، ثم تكون العاقبةُ حميدةً، يقرأ المسلمُ قولَه -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشُّعَرَاءِ: 78-82]، فيتحقَّق له بهذا المعنى راحةُ البال، واستقرارُ الحال؛ فربُّه يُطعِمه ويسقيه، وإذا أصابه مرضٌ يشفيه، وإن سأله حاجةً يعطيه، كما يستيقِن المسلمُ أن أمرَ دفعِ ضُرِّ المرضِ وجَلْبِ الشفاءِ بيد ربِّه ومولاه.
يتلو المسلمُ قولَه -تعالى-: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ)[النَّحْلِ: 70]، فيعلم علمًا لا مِرْيَةَ فيه أن الحياة الدنيا محطَّةٌ، وأنها إلى زوال مهما طال البقاء، وأنه مرتحل اليوم أو غدا ليلقى ربه، يقرأ المسلم قوله -تعالى-: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)[الْأَنْبِيَاءِ: 37]، فيعلم في الحوادث والْمُلِمَّات أن لله في خلقه شُئُونًا، وفي غَيْبه حِكَمٌ بليغةٌ، ظاهرةٌ وأخرى خفيةٌ، (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)[النُّورِ: 11]، وفي الحوادث والْمُلِمَّات يقرأ المسلمُ قولَه -تعالى-: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[الْمَعَارِجِ: 19-23]، فيرى صفاتِ الهَلَع والجَزَع تستولي على مَنْ نزَل به مرضٌ، أو مسَّه فقرٌ، أو حلَّت به مصيبةٌ، ويتمكَّن البخلُ والمنعُ إذا ناله غِنًى، وغمَرَتْه صحةٌ وعافيةٌ، واستثنى اللهُ من ذلك: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[الْمَعَارِجِ: 23]، فالْمُحافِظون على الصلاة هم السعداء، المحفوظون بحفظ الله، وفي الحوادث والْمُلِمَّات يتجرَّد المسلمُ من حَوْله وقُوَّتِه، ويُقِرُّ بفقرِه وحاجتِه إلى ربه، وعدمِ استغنائه عنه طرفةَ عينٍ، وفي هذا يقول رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دعواتُ المكروبِ: اللهم رحمتَكَ أرجو، فلا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ، وأَصْلِحْ لي شأني كلَّه، لا إلهَ إلا أنتَ".
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله العظيم الحميد، الفعَّال لما يريد، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، ذو العرش المجيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالأمر الرشيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما هلَّل مُهَلِّلٌ وانشَقَّ فجرٌ جديدٌ.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، وفي ظل الأزمة العالمية التي أفرزها هذا الوباء المستشري يشدو كلُّ عاقل في هذه البلاد بهذا التلاحم الذي نراه يتجسَّد بين قيادة تحرص على سَنّ الأنظمة والإجراءات حمايةً للأرواح وحفظًا للمصالح، وأفراد يتَّسِمون بالوعي، ويُدرِكون دورَهم بالالتزام بالتعليمات والإرشادات، حتى تنقشعَ الغمةُ ويزولَ البأسُ، ونعبرَ الأزمةَ، ونتجاوزَ الشدةَ، بفضل الله ورحمته ولطفه، ثم مزيد تكاتُف وتعاوُن يُتوَّج بصدق التوبة والأوبة.
وفي ظل هذه الجائحة العامة يتوجَّب على أصحاب الرأي والفكر ورجال المال والأعمال أن يستشعروا واجِبَهم الدينيَّ ومسئوليتَهم ورسالتَهم في مثل هذه الأحداث التي يُمتحن فيها الإيمانُ، وتتجسَّد فيها ومعها معاني الأُخُوَّة؛ لتخفيف آثار الأزمة عن فقراء ومساكين وأيتام أحاط بهم العوزُ، وسقطوا ويسقطون من تداعيات الوباء وتوقُّف بعضِ الأعمال؛ وذلك بإطلاق المبادَرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والنفسية والأسرية، كلٌّ حسبَ تخصُّصِه ومَوقِعِه وعلى قَدْر هِمَّتِه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نفَّس عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا نفَّسَ اللهُ عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومَنْ يسَّر على مُعسِرٍ يسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومَنْ سَتَرَ مسلمًا ستَره اللهُ في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
اللهم إنا نسألك يا اللهُ بأنَّا نشهد أنكَ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، الأحدُ الصمدُ، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، اللهم إنا نعوذ بكَ من زوال نعمتِكَ، وتحوُّل عافيتِكَ، وفُجاءَةِ نقمتِكَ وجميعِ سخطِكَ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من البرص والجنون والجذام، ومن سيئ الأسقام، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنَّا نعوذ بك من الوباء وعظيم البلاء، في النفس والأهل والمال والولد، يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحمَ الراحمينَ، يا حيُّ يا قيومُ.
اللهم ارحم موتانا، وعافِ مبتلانا، واشفِ مرضانا، اللهم ارفع عن الأمة ما نزَل بها من البلاء، بحولِكَ وقُوَّتِكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ، سبحانَكَ إنَّا كنَّا من الظالمين، اللهم اكشفِ عنا الكربَ، واكشِفْ عنا البلاءَ، وارفع عنا كلَّ شدة وعناء، اللهم أَقِرَّ أعينَنا بالحفظ ورفع البلاء، والنجاة يا ربَّ العالمينَ، لا إلهَ إلا اللهُ، العظيمُ الحليمُ، لا إلهَ إلا اللهُ، ربُّ العرش العظيم، لا إلهَ إلا اللهُ رب السماوات ورب الأرض، رب العرش العظيم، رب العرش الكريم.
اللهم إنَّا خلقٌ مِنْ خَلقِكَ، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلَكَ ورحمتَكَ وعافيتَكَ ولطفَكَ، اللهم إنا نسألُكَ العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إنَّا نسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديننا ودنيانا وأهلنا ومالِنا، اللهم استر عوراتنا، وآمِنْ روعاتِنا، واحفظنا من بين أيدينا ومِنْ خَلْفِنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتِكَ أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم ارفع البلاءَ والوباءَ عاجِلًا غيرَ آجِل، يا سميعَ الدعاء، يا أرحمَ الراحمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنكَ حميدٌ مجيدٌ.