الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والخيرُ في الطاعة، والشرُّ في ضدها، والحياةُ مَيدانٌ فسيحٌ لصالح الأعمال، والتسويفُ يُورِث الندمَ، والتوبةُ تمحو الزَّلَّةَ، والسعيد مَنِ استودَع مدةَ عمرِه صالحًا من عمله، فاحفَظُوا الأيامَ قبل التفرُّد في القبور، واغتنِموا الحياةَ قبل الفوات...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عباد الله- حقَّ التقوى، فالتقوى أربحُ المكاسبِ وأجزلُ المواهبِ.
أيها المسلمون: تعاقبُ الشهورِ والأعوامِ على العباد مِنْ نِعَمِ اللهِ الغزارِ، قال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 33-34]، وقد وبَّخ اللهُ مَنْ فرَّط في وقته ولم ينتفع به في آخرته، قال عز وجل: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)[فَاطِرٍ: 37]، ونعمتان إن لم يغتنمها المرءُ فهو خاسرٌ وسيندم عليها، قال عليه الصلاة والسلام: "نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ"(رواه البخاري).
واللهُ أقسَم في آيات عديدة من كتابه بأجزاء من الوقت، بالليل والنهار والفجر والصبح والعصر والضحى، والليالي والأيامُ خزائنُ للأعمال ومراحلُ للأعمار، تُبلِي الجديدَ وتقرِّب البعيدَ، أيامٌ تمر وأعوامٌ تمضي، وأجيالٌ تتعاقَب على درب الآخرة، فهذا مقبلٌ وذاك مدبرٌ، وهذا صحيحٌ وآخَرُ سقيمٌ، والكلُّ إلى الله يَسِيرُ، قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ الناسِ يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتِقُها أو مُوبِقُها"(رواه مسلم).
في الدهر آلامٌ تنقلِب أفراحًا، وأفراحٌ تنقلِب أتراحًا، أيامٌ تمضي بهمومها كأعوام، وسنواتٌ بسعادتها كأيام، واللبيبُ مَنِ اتخذَ ذلك عِبَرًا ومُدَّكَرًا، قال جلَّ شأنُه: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النُّورِ: 44]، والعامُ يرحل بما أودَع فيه العبادُ من أفعال، وستُعرَض عليهم يومَ القيامة، قال عز وجل: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ)[الْقِيَامَةِ: 13]، فانظُرْ في صحائف الأيام التي خَلَتْ، ماذا ادخرتَ فيها لآخرتِكَ، واخلُ بنفسِكَ وحاسِبْها حسابَ الورعِ الأمينِ، ومضيُّ الليلِ والنهارِ يباعدانِ من الدنيا ويقرِّبان من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره، ووقَف مع نفسه وِقْفةَ حسابٍ وعتابٍ، يصحِّح مسيرتَها ويتدارك زلتَها، يستذكِر في ليله ما صدَر من أفعالِ نهارِه، فإن كان محمودًا أمضاه، وإن كان مذمومًا تاب منه؛ لأنه مسافرٌ سفرًا لا يعود، قال ابن حبان -رحمه الله-: "أفضلُ ذوي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبةً".
والاطلاعُ على عيوب النفس يُوجِب الحياءَ من الله، ومعرفةُ العبدِ نفسَه وأنَّ مآلَه إلى القبر يُورِثُه تذللًا وعبوديةً لله، فلا يعجَبُ بعمله مهما عَظُمَ، ولا يحتقِر ذنبًا مهما صَغُرَ، فإذا جالستَ الناسَ فالخلقُ يراقبونَ ظاهِرَكَ، واللهُ يُراقِبُ باطِنَكَ، ومَنْ صحَّح باطِنَه بالإخلاصِ وصفاءِ السريرةِ زيَّن اللهُ ظاهرَه بالصلاح والفَلاح.
والتعرُّف على حقُّ الله، وتذكرُ كثرةِ نعمِه يدعو إلى الله، ويُدرِك المرءُ معه تقصيرَه على شكرِ النعمِ، وأنه لا نجاةَ إلا بالرجوع إليه، وأَنْ يُطاعَ فلا يُعصى، وأن يشكرَ فلا يُكفَر، قال ابن القيم -رحمه الله-: "بدايةُ المحاسبةِ أن تُقايِسَ بين نعمتِه -عز وجل- وجنايتِكَ، فحينئذ يظهر لك التفاوتُ، وتعلمُ أنَّه ليس إلا عفوُه ورحمتُه، أو الهلاكُ والعطبُ".
وتفقُّدُ عيوبِ النفسِ يزكِّيها ويطهِّرها، قال جل شأنه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشَّمْسِ: 9-10]، قال مالك بن دينار -رحمه الله-: "رَحِمَ اللهُ عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟، ثم ألزَمَها كتابَ ربها، فكان لها قائدًا".
وما ابتعَد عن الله مَنِ ابتعَدَ إلا بغفلتِه ونسيانِه عن محاسَبة الله له، قال جل شأنه: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا)[النَّبَإِ: 27]، ومَنْ يقع في السيئات ويتَّكِل على عفوِ اللهِ ورحمتِه فقد خادَع نفسَه، فالكريمُ لا يقابِل بالأعمال السيئة، قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)[الِانْفِطَارِ: 6]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أَيْ: ما غرَّكَ يا ابنَ آدمَ بربِّكَ الكريم؛ أَيِ العظيمِ حتى أقدمتَ على معصيتِه وقابلتَه بما لا يليقُ".
والحساب في الآخرة يخفُّ على قوم حاسَبوا أنفسَهم في الدنيا، ويشقُّ الحسابُ على قوم لم يحاسبوها في الدنيا، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "لا يليق بالمؤمن إلا أن يعاتِب نفسَه فيقول لها: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟".
والمؤمن قوَّام على نفسه يُحاسِبُها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 201]، قال السدي -رحمه الله-: "إذا زلوا تابوا".
فتوقَّ الوقوعَ في الذنب؛ فتركُ الذنبِ أيسرُ من طلب التوبة، وأَنِّبْها على التقصير في الطاعات؛ فالأيام لا تدوم، وخاطِبْ نفسَكَ ماذا قَدَّمَتْ في أيام خَلَتْ، وبما تسعد لأيام ستُقدِم، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تُحاسَبُوا، وزِنُوها قبلَ أن تُوزَنوا"، وعاهِدْ نفسَكَ في مطلع كلِّ يوم على المحافَظة على الصلوات الخمس في المساجد، والتزوُّد من العلم النافع، وحفظ اللسان عن المحرَّمات من الكذب والغِيبة والبذاءة والفحش، وعليك بالورع في المطاعم والمشارب، واجتناب ما لا يحلُّ، واحرِصْ على برِّ الوالدينِ وصلةِ الأرحام، وبَذْلِ المعروفِ للقريب والبعيد، وتطهير القلب من الحسد والعداوة والبغضاء، واحذر الوقيعةَ في أعراض المسلمين، واجتهِد بالنصيحة للمسلمين، وأداء حقوق الأولاد والزوجة، وغضَّ البصرَ عن النظر إلى المحرمات.
وبعدُ أيها المسلمونَ: فما الحياةُ إلا أنفاسٌ ثم تنقطع بغتةً، فكلُّ يومٍ تغرُب فيه الشمسُ يُنذِر بنقصانِ العمرِ، والعاقلُ مَنِ اتَّعَظ بأمسِه واجتَهَد في يومِه، واستعَدَّ لغده، فخُذ الأهبةَ لآزِفِ النُّقْلةِ، وأَعِدَّ الزادَ لقربِ الرحلةِ، وخيرُ الزادِ ما صَحِبَه التقوى، وأعلى الناسِ عندَ اللهِ منزلةً أخوفُهم منه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: نصيبُ الإنسانِ من الدنيا عمرُه، فإِنْ أحسَنَ اغتنامَه بما ينفعه في دار القرار فقد أفلَح، وإِنْ أساءَ اغتنامَه وأكثرَ من المعاصي والسيئات فقد أساء لنفسه، والموفَّق مَنْ حاسَب نفسَه قبل أن يُحاسِبَه اللهُ، ولم ينسَ صلاحَ نفسِه لئلا يُنسى، (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[التَّوْبَةِ: 67].
والخيرُ في الطاعة، والشرُّ في ضدها، والحياةُ مَيدانٌ فسيحٌ لصالح الأعمال، والتسويفُ يُورِث الندمَ، والتوبةُ تمحو الزَّلَّةَ، والسعيد مَنِ استودَع مدةَ عمرِه صالحًا من عمله، فاحفَظُوا الأيامَ قبل التفرُّد في القبور، واغتنِموا الحياةَ قبل الفوات، وأكرِموا نزلَ كلِّ يوم بالطاعات.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدينَ، الذين قَضَوْا بالحقِّ وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، وعنَّا معهم بجودِكَ وكرمِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءَ الدينِ، اجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئِنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمينَ، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمينَ في كل مكان، واجعل بلادَهم بلادَ أمنٍ ورخاءٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتِهما للبِرِّ والتقوى، وانفَع بهما الإسلامَ والمسلمينَ يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُرُوه على آلائه ونِعَمِه يَزِدْكُمْ، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].