الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
عباد الله: الصبر خلق المسلم في أحواله كلها وتصرفاته كلها، صبرا على الطاعات وأنواع الخير، وصبرا على المعاصي والإجرام، وصبر التعامل مع الخلق، وصبرا في البلايا، وصبرا في الدعوة إلى الله، وصبرا على كل...
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاسَ: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: إن من الأخلاق الكريمة التي دعا الإسلام إليها، ورغب فيها، خلق الصبر والتصبر، قال الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].
وقال جل وعلا: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ) [النحل: 127].
وقال: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر: 7]
إن الصبر صبر على فعل شيء أو ترك شيء ابتغاء وجه الله، ورضاء بقضاء الله وقدره.
والصبر ضروري للمسلم في حياته، فإن في تقلبات الدنيا وتغيرها مصائب في النفس، أو في المال أو في الولد، فلابد من صبر وتحمل للمشاق، وقبل ذلك سؤال الله العافية: "لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا".
إذا فيصبر ويتحمل المشاق ولا يسخط ولا يجزع.
ولقد جاء في فضل الصبر آيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن فضائل الصبر:
أن الله جعله سببا للفلاح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
ومن فوائد الصبر: أن ثوابه لا يقدر بقدر معين، قال جلَّ وعلا: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
ومن فضائله: أن الصبر مع اليقين به تنال الإمامة بالدين، قال جلَّ وعلا: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
والصبر يحبه الله: (وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
(وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
وقد جاء في الصبر فوائد، قال جلَّ وعلا: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155- 157].
ومن فوائد الصبر: أنه سبب الانتصار على الأعداء: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران: 120].
ومن فوائده: حصول الثواب العظيم: (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: 11].
ومن فوائده: أنه من عزائم الأمور: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43].
وأن الصبر سبب لتدبر الآيات: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان: 31].
والصابر قد نجا من وصف الخسارة، فإن الله يقول: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1-3].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ أَذًى حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بها مِنْ خَطَايَاهُ".
وجاء أنَّه صلى الله عليه وسلم سأله الأنصار فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفذ ما بيده، قال: "لو عندي شيء لأعطيتكم؛ لكن مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، ومَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ" أي: يعينه.
وبين صلى الله عليه وسلم أن الصبر على المصائب سبب لدخول الجنة؛ فقال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله: "إِذَا ابْتَلَيْتُه بِحَبِيبَتَيْهِ يُرِيدُ عَيْنَيْهِ، فصَبَرَ عَوَّضْتُهُ عنهما الْجَنَّةَ".
وقال ابن عباس لعطاء: ألا أدلك على امرأة من أهل الجنة هذه المرأة السوداء، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إِنِّي أُصْرَعُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: "إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ لك، وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ"، قَالَتْ: أَصْبِرُ، ولكني أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ" فَدَعَا لَهَا أن لا تتكشف".
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر للمسلم خير، فقال صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا للْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ له عجبا، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، أو سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَاكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ".
وأن الصبر يخلف الله على الصابر أضعاف ما فاته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أصِيب مُصِيبَةٌ فقال: كمَا أَمَرَهُ اللَّهُ: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة: 156] اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا".
أيّها المسلم: وأن الصبر خلق أنبياء الله عليهم السلام في دعوتهم إلى الله، وصبرهم على أذى قومهم، قال الله جلَّ وعلا: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ)[الأنبياء: 85- 56].
وقال عن أيوب: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 44].
هذا نبي الله أيوب من أصلح الناس وأكملهم، ابتلاه الله بمرض ألزمه الفراش، فذهب ماله وولده، وتخلى عنه كل أحد إلا امرأته، فإنها لازمته على حاله كلها، فأمره الله فركض برجله فنبع له عينا بارد فشرب منها واغتسل وزال عنه، قال الله جل وعلا: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 83- 84].
وأمر الله نبيه بالصبر، فقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) [الأحقاف: 35].
أيّها المسلم: إن الصبر على أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
فالصبر على طاعة الله: فإن الطاعة عبادة لله، وقد أمر الله بالصبر على عباده، فقال: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65].
وقوله: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) أي أصبر على العبادة ولازمها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طـه: 132].
فيصير المسلم على الطاعة: يصبر على الفرائض الخمس أدائها جماعة بالمساجد في وقتها، مهتماً بها، محافظاً على شروطها، وأركانها وواجباتها، يصبر في أداء الجمعة ويبكر إليها، ويستفيد من هذا الخير العظيم.
يصبر على بر الأبوين، رغم كبر سنهما، وضعف قوتهما وقلة حيلتهما، ونفاذ صبرهما، يصبر عليهما صبر الكرام: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)[الإسراء: 23- 24].
يصبر على رحمه، فيصل الرحم وإن قطع: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، إنما الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا".
يصبر على رحمه فيحسن إليهم، ويبذل المعروف، ويتحمل الأذى، ويصبر على ما يصدر منهم طاعة لله وتقرباً إليه.
يصبر العامل على أداء ما أؤتمن عليه من عمل، يصبر الموظف على وظيفته وأدائها وقتا وأداءً كاملا طاعة لله، وصبرا على هذا العمل المناط به.
يصبر المسلم على الكسب الحال وإن قل، لا يزهده في الحلال قلته، ولا يرغبه في الحرام كثرته، قال تعالى: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : 100].
فيصبر على المال الحلال الطيب وإن قل عدده؛ لأن فيه البركة والخير، ويبتعد عن الحرام وإن زاد عدده إذ لا خير فيه في عواقب الأمور.
ومن الصبر عن معاصي الله: فالمعاصي والشهوات المغريات تصرف الإنسان عن طاعة الله، وتحسن المعاصي والسيئات، فلابد للمسلم من صبر عن معاصي الله؛ صبرا يدعوه إلى الكف عن معاصي الله، يقارن بين لذة المعصية القليل وحسراتها وتبعاتها الكثيرة، فلذة بمعصية تعقب حسرات وندامات، ضعف بالإيمان، وقلة في الحياء، وتعرض لسخط الله وغضبه وعقابه، فيصبر المسلم عما حرم الله عليه رجاء ثواب الله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46].
(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم: 14].
فمن ذكر الله وعلم اطلاعه على عبده؛ دعاه ذلك إلى طاعة ربه، والبعد عن مخالفته.
فيصبر عن التعامل بالربا، وإن كان فيه عوض كثير؛ لكن يعلم أن الله حرمه، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم أكله وموكله، وكاتبه وشاهديه، وآذنهم الله بحرب من عنده فيمتنع عن الربا طاعة لله ولا تخدعه كثرة الأموال.
يصبر عن الخمر والزنا والفجور، يصبر عن شهادة الزور.
يصبر عن غيبية المسلمين والسعي بالنميمة والوشاية بينهم.
يصبر على مغريات الدنيا، فقد تعرض عليه الرشوة ويدعى إليها، وتخرج له بصيغة مناسبة للفكر؛ لكن إذا علم أنها رشوة وأن النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الراشي والمرتشي والساعي بينهما، ترك الرشوة طاعة لله، وخوفا من عقوبة الله.
يصبر على أداء الحقوق الواجبة لغيره فلا يجحد الحقوق، ولا يظلم الناس في حقوقهم، يصبر على الشهادة فلا يشهد إلا بالحق، ويتجنب شهادة الزور والآثام.
يصبر عن الحرام بكل أنواعه الأقوال والأفعال؛ لأن هذا دليل الإيمان الصادق.
ومن أنواع الصبر: الصبر في معاملة الناس، فالعبد بطبيعته لابد أن يخالط الناس ويخالطوه، ومن يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرا ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، فيصبر المسلم المخالط بالناس على اختلاف طبقاتهم:
فأولا: مع زوجته، فيصبر على بعض أخطاءها التي لا تخل بشرف ولا دين يصبر ويتحمل، قال الله جل وعلا: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19].
وقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228].
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا، فقال: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ ما فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ".
وقال: "لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ".
يصبر على تعامله مع الناس فيتحمل الأذى ويصبر: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34-35].
يصبر المسلم على أولاده في تربيتهم، وتعليمهم، وتوجيههم، ودعتهم إلى الخير، لا يضجر منهم، ولا يهتم بأرزاقهم، فأرزاقهم بيد ربهم لا يهن كثرتهم، ولا قلة الموارد، يصبر ويحتسب ويرجو من الله الفرج وتيسير الأمور، يصبر على الأولاد فيربهم تربيةً صالحة ويعدهم إعداد خيرا، يؤدي الواجب الذي عليه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله.
يصبر المسلم على الجار صبر الكرام، فيبذل الجار المعروف والإحسان، ويكف عنه الأذى، ويتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ".
ويحذر من أذاه، ويذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ إِيمَانَ لمَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ".
يصبر على عماله من تحت يده، فيصبر على بعض أخطائهم، ويعالج ذلك بالحكمة، يصبر على المصائب التي تصيبه في نفسه أو ماله أو ولده، فإن المصائب مكفرات للذنوب، ولا يدري المسلم عن عواقب الأمور فيصبر ويحتسب، ولعل الله أن يعوضه في الآخرة خيرًا مما فاته، وقد يجمع له ما بين الحسنين إن هو صبر واحتسب، جاء في الحديث: "من أصيب بمصيبة في نفسه أو ماله فكتمها، ولم يشكها إلى النَّاس كان حقا على الله أن يغفر له".
ومنها: الصبر على فقد الحبيب، يقول الله جل وعلا: "مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ جَزَاءٌ، إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ الدُّنْيَا، فَصَبَر إِلاَّ عَوَّضْتُهُ الْجَنَّةُ".
والصبر على فقد الأولاد أيضا، فإن ذلك صبر على قضاء الله جاءت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تقول: إن ابني يحتضر فحضرنا، فأوصى لها بقوله: "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلله مَا أَعْطَى وَكُلُّ شيء عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ"، قال: أقسمت أن يحضر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سعد بن عبادة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة، فرفع الطفل إليه تقعقع روحه فبكى صلى الله عليه وسلم، فقالت: أتبكي يا رسول الله؟ قال: "رَحْمَةٌ قد جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُبِ العبد، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ".
الدعاة إلى الإسلام، والدعاة إلى الخير لابد لهم من صبر في دعوتهم، فإن كل داعي خير لابد أن يقابل من المخالفين بالأذى والتكذيب؛ لأن ما أراد أن ينقل أمةً من ضلال عاشوا عليه، وتربوا عليه لن يستطيع إلا بصعوبة، فلابد من صبر، قال الله جل وعلا: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ) [الأنعام: 34].
فصبر الأنبياء عليهم السلام، نوح أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع هذا يقول الله: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) [هود: 40].
دعا قومه ليلا ونهارا، سرا وجهارا؛ ولكن لله الحكمة فيما قضاء وقدر، وهكذا أنبياء الله صبروا على قومهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
ومحمد صلى الله عليه وسلم صبر على أذى قومه له ألقوا الجزور على ظهره، ووصفوه بالكذاب والساحر والشاعر والمجنون، وغير ذلك، والله يقول له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35].
وقال له: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر لابد لهم من صبر فقد يصيبهم ما يصيبهم من أهل المعاصي والإجرام، قال الله عن لقمان قال لابنه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17].
فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمحتسبون لهذا الأمر عليهم أن يصبروا ويوطئوا عن الصبر والتحمل؛ لأنه لابد لهم من علم فيما يأمرون وينهون عنه، ومن رفق حال الأمر، ومن حلم وتحمل بعد الأمر ليصبروا ويحتسبوا فإنهم على خير، وعلى أجر عظيم في صبرهم وتحملهم لدى الناس، هكذا يكونون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إخلاصا لله، وصدقا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبرا على ما يصيبهم من أذى الفساق والفجار: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني إيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقولٌ قولي هذا، واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ:
فيا أيُّها النَّاس: اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله: الصبر خلق المسلم في أحواله كلها وتصرفاته كلها، صبرا على الطاعات وأنواع الخير، وصبرا على المعاصي والإجرام، وصبر التعامل مع الخلق، وصبرا في البلايا، وصبرا في الدعوة إلى الله، وصبرا على كل خير والبعد عن كل شر.
أيها المسلم: ولابد من صبر المسلم في طاعة ولاة الأمر، فإن طاعة ولاة الأمر أمر واجب، افتراضه الله على المسلم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء: 59].
فيصبر على طاعة ولي أمره صبر الكرام، يصبر على الطاعة وفيما أمر به ما لم يكن معصية، صبر يدعوه على محبة ولاة الأمر والالتفات حولهم، ودعوة الناس لذلك، وتحبيب الرعية لرعيتهم، والراعي لرعيته، وبذل النصيحة الخاصة والدعوة إلى كل خير، والحذر ممن يفسد الأمة ويسعى في إفساد دينها وإفساد مجتمعها، وإضرار بأوطان المسلمين فإن المسلم لا يرضى بذلك، يصبر على طاعة ولاة الأمر بالمعروف صبرا يدعوه على محبتهم والدعاء لهم، وتحبيب الرعية لرعيتهم، والسعي فيما يجمع القلوب ويؤلف الصف، ويوحد الشمل، والحذر من كل ما يفسد الأمة بحاضرها ومستقبلها؛ لأن الأمة بأمس الحاجة إلى التلاحم واجتماع الكلمة، والحذر من مكايد الأعداء، والأخذ العبرة من واقع الأمة فيما تشهده اليوم من صراعات ونزعات، وضعف الأمن واختلاله، والفوضى العارمة التي لا ترحم أحدا، قضت على كل رطب ويابس، قضت على كل خير، وألحقت أضرارا عظيمة، ومصائب كثيرة حطمت قوتها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية وجعلتها في حالة سيئة، فإذا فكر العبد واعتبر وعلم أن هذه الفوضى لا تخدم هدفا، ولا تحقق مصلحة، وإن الصبر مع الولاة فيما يسعون فيه في جمع الكلمة وتوحيد الصف وحماية الوطن من كل من يريده بسوء أن هذا أمر لابد من الصبر عليه، وتحمل ذلك؛ لأن في هذا أمن للأمة وسلامة لها في حاضرها ومستقبلها، والحذر كل الحذر من الإشاعات والأراجيف الكاذبة التي يروجها المغرضون والمفسدون والحاقدون على الأمة وعلى دينها وأمنها، من أناس ملئت قلبوهم يريدون كيدا وشرا، والمسلم خلاف ذلك، صابر على الحق والعدل، صابر على الطاعة في المعروف، رافضا كل من يفسد الأمة في دينها ودنيها، في حاضرها ومستقبلها، لا يرضى لبلاد الإسلام بسوء، ولا يرضى لمكايدة الأمة بسوء؛ بل هو ذو صبر وتحمل.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضى من الأقوال والأفعال؛ إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله: أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
واعلموا رحمكم الله: أن الله أمركم أن تصلوا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صلي وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهديين أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا ولاة أمرنا، اللَّهمَّ وفق قادة المسلمين لكل خير إنك على كل شيء قدير.
اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبد الله بنَ عبد ِالعزيزِ لكل خير، اللَّهمَّ أمنحه الصحة والسلامة والعافية، اللَّهمَّ سدده في أقواله وأعماله، اللَّهمّ أره الحق حقا ورزقه اتباعه، وأره الباطل باطلا ورزقه اجتنابه، ودله على كل عمل تحبه وترضى إنك على كل شيء قدير، اللَّهمَّ شد عضده بولي عهده سلمان بن عبد العزيز ووفقه لما تحبه وترضى وأعنه على مسئوليته إنك على كل شيء قدير.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
اللَّهمَّ أنت اللهُ لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللَّهمَّ أغثنا، اللّهمَّ أغثنا، اللهمَّ أغثتنا، اللّهمَّ سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا هدم لا غرق.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عبادَ الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.