الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - الحياة الآخرة |
فالمؤمن الذي يتبع رضوان الله لا مناص له من أن يتولى الملائكة بالحب والتوقير, ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، ومن أكثر ما يؤذي الملائكة الكرام الذنوب والمعاصي، فما موقف الملائكة ممن يعصون الله -عز وجل-؟ فهناك معاصي تنفر الملائكة من أصحابها، وهناك معاصي تلعن الملائكة أصحابها وهذا أشد، ويحتمل أن الملائكة لا تشفع لمن تأذت منه...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: الشفاعة يوم القيامة أمرها عظيم عند الله، وهي مدرسة إيمانية تربي المسلم ليس على الاتكالية كما يظن البعض, وإنما تربيه على حب الأعمال الصالحة التي بها يحظى العبد على الشفاعة يوم القيامة, وقد ذكرنا في خطب سابقة أنواع شفاعات النبي -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- وكيف نفوز بها؟.
وهناك شفعاء كُثُر يوم القيامة سيكون لهم كرامة، ومكانة عند الله -جل وعلا- يوم القيامة, روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر, وأول شافع وأول مُشَفَّع"؛ فمن قوله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-: "وأول شافع" دليل على أنه يوجد آخرون سيشفعون للمؤمنين يوم القيامة, بعد شفاعة النبي -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-.
فمَنْ هؤلاء الشفعاء يا ترى؟ وما دورنا تجاههم؟ وكيف نحظى بشفاعتهم؟ هذا ما سنتحدث عنه -بإذن الله.-
فأما عن هؤلاء الشفعاء فهم الملائكة -عليهم السلام-، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، والشهداء، وصالح المؤمنين، وشفاعة أطفال المؤمنين لوالديهم، وشفاعة بعض الأعمال الصالحة لأصحابها.
أما عن شفاعة الملائكة -عليهم السلام-: فإنَّ مِنْ كرم المؤمن عند الله -جل وعلا- أنْ جعل ملائكته المقربين -عليهم السلام- يستغفرون للمؤمنين التوابين في الدنيا؛ فقال -جل وعلا-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[غافر: 7-9]؛ نقل القرطبي في تفسيره عن خلف بن هشام البزار القارئ قال: "كنت أقرأ على سليم بن عيسى, فلما بلغت: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بكى, ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله!, نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له" أهـ.
ألم تروا أن الملائكة تستغفر للصف الأول, وللذين يسدون الفرج في الصلاة, وللمتسحرين, وللذين يزورون المرضى, وللذين يعلمون الناس الخير، وللذين يمكثون في مصلاهم بعد الصلاة، وللذين يصلون على النبي -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-.
ومن سعة رحمة الله -جل وعلا- يوم القيامة, أنَّه سيجعل للملائكة -عليهم السلام- شفاعة لمن دخل النار من المسلمين؛ فقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- قال: "فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ..."(متفق عليه.(
فالملائكة يجب الإيمان بهم, وحبهم وتوقيرهم وعدم إيذائهم، ولتحقيق ذلك يجب التعرف على ما يتأذى منه الملائكة الكرام مما ورد عن النبي -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-؛ كالروائح الكريهة, وجلد النمور, وصوت الجرس, ووجود الأصنام والكلاب، والبصق عن اليمين في الصلاة، والبقاء على الجنابة، والمتضمخ بالزعفران، وجيفة الكافر.
فالمؤمن الذي يتبع رضوان الله لا مناص له من أن يتولى الملائكة بالحب والتوقير, ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، ومن أكثر ما يؤذي الملائكة الكرام الذنوب والمعاصي، فما موقف الملائكة ممن يعصون الله -عز وجل-؟ فهناك معاصي تنفر الملائكة من أصحابها، وهناك معاصي تلعن الملائكة أصحابها وهذا أشد، ويحتمل أن الملائكة لا تشفع لمن تأذت منه, أو لعنته في الدنيا؛ لذنوب مات ولم يتب منها.
فحري بنا البعد عن هذه الذنوب إن كنا نتمنى شفاعة الملائكة؛ كالمرأة التي لا تستجيب لزوجها، والذي يرفع حديدة على صاحبه، والذي يسب أصحاب النبي -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-، والذي ينتسب إلى غير قبيلته، وإخفار ذمة المسلم، وإيواء المحدث؛ لقوله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-: "من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً؛ فعليه لعنة الله, والملائكة, والناس أجمعين"، وكذلك التغوط في طريق المسلمين، وعدم تحكيم شرع الله -عز وجل-.
ثانياً: شفاعة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-: وممن سيشفع يوم القيامة الأنبياء -عليهم السلام-، فسيكون لسائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- شفاعة لمن دخل النار, ولكن هل سيشفع الأنبياء في أتباعهم فقط؟ فإن كانوا كذلك, فلن نستفيد من هذه الشفاعة, ولكن من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين، أنَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- سيشفعون في كل من أقر بتوحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- من جميع الأمم, إذ أننا نؤمن بأن كل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على اختلاف شرائعهم، قد أُرسلوا إلى أقوامهم بتوحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ-, قال الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25].
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه قد ثبت في الصحيح أنَّ الأنبياء يتفاوتون في عدد أتباعهم, فمِنَ الأنبياء مَنْ يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، ومِنَ الأنبياء من يأتي وليس معه أحد؛ لما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا النبي -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- يوماً فقال: "عرضت علي الأمم, فجعل يمر النبي معه الرجل, والنبي معه الرجلان, والنبي معه الرهط, والنبي ليس معه أحد"(متفق عليه).
ولا شك أنَّ الذي سيأتي بعدد قليل كهذا، أو من سيأتي من الأنبياء وليس معه أحد, أنَّه لن يُحرم من أنْ يشفع لأحد، فلن يفضله الشهداء وصالح المؤمنين من هذه الأمة ألبته, وإنما قد يُحدُّ له حداً في النار, ويشفع لأناس من غير أمته فيمن يشهد أنْ لا إله إلا الله مخلصاً, والله -تعالى- أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ ذي الفضل والمنة، الذي هدانا لأحسن ملة، والصلاة والسلام على من خلقه الله مبرأ من أي علة، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ, صلى الله عليه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، صلاة كاملة لا نقص فيها ولا علة.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى, واعلموا أن الشفاعة يوم القيامة ما هي إلا كرامة وشرف يمنحه الله -عز وجل- للعبد، ومن الشفعاء الآخرين يوم القيامة شهداءُ هذه الأمة، الذين يقتلون في سبيل الله؛ فقد روى المقدام بن معدي كرب -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- قال: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة, ويرى مقعده من الجنة, ويُجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار, الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها, ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه"(رواه أحمد والترمذي).
وهل يدخل فيهم الغريق, وصاحب الهدم والحريق, والمبطون, ومن مات بمرض السل أو الطاعون؟ هذا مما اختلف فيه العلماء، وعلى كل حال، ألا تتمنى -أخي المسلم- أنْ تكون من الشهداء؛ كي تنال هذه الخصال العظيمة التي نطق بها الصادق المصدوق -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ-, وتشفع لسبعين إنساناً من أقربائك؟ فتخيل ضخامة هذا العدد من أهل بيتك!.
لقد كان بعض السلف -رحمهم الله تعالى- يفرحون بذلك، ويتسابقون فيما بينهم لنيل الشهادة، ويهنئ بعضهم بعضاً أحياناً إذا مات منهم شهيد في أرض المعركة, روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- قال: "من سأل الله الشهادة؛ أعطيها ولو لم تصبه"(رواه مسلم), وروى سهل بن حنيف -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صَلَى اللهُ عليهِ وَسَلمَ- قال: "من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"(رواه مسلم).
نسأل الله -تعالى- الشهادة في سبيله بعد طول عمر وحسن عمل, اللهم إنا نرفع إليك أكف الضراعة، فافتح لدعائنا أبواب القبول والإجابة، واجعلنا من أهل الحوض والشفاعة، وآمن روعنا يوم تقوم الساعة.