العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
فَلِمَاذَا بَعْدَ كُلّ هَذهِ الآثَار نُبْقِي في قُلُوبِنَا حَسْرةً تَصْرِفُنَا عَنْ صَفْوِ الحَيَاة إِلَى كَدَرِهَا؟ وَنَجْعَلُ الشَّهَادات هيَ مَصْدَرُ رِزْقِنَا, فلا مُسْتَقْبَلَ إِلا بِشَهَادَة, فاسْمَع أَنْتَ -أَيُّهَا الأبُ الحَانِي- إلى جَوَابِ الحَسن البَصْرِيّ حِينَ سُئِلَ عَنْ سِرِّ زُهْدِه فِي الدُّنيَا فَقَال: "أَرْبَعَة أَشْيَاء: عَلِمْتُ أَنَّ عَمَلِي لا يَقُومُ بِهِ غَيْرِي فَاشْتَغَلَتُ بِهِ, وَعَلِمْتُ أَنَّ رِزْقِي لا يَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي فَاطْمَأنَّ قَلْبِي...
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ تجلَّى للقُلُوبِ بِالعَظَمَة, فَخَشَعتْ لَهُ بِدَاخِلِ العَتَمَة, فَلا الأبْصَارُ تَبلغُ كُنْهَه, وَلا الأيَادِي تُطُولُ مَنْحَه, ولا الكَلام يَنُوطُ مَدْحَه, هُوَ الأوَّلُ بِلا ابْتِدَاء, وَالآخِرُ بِلا انْتِهَاء:
وَلعلَّ مَا فِي النَّفسِ مِنْ آيَـاتِهِ | عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْناكَ |
وَالكَوْنُ مَشْحُونٌ بَأَسْرَارٍ إِذَا | حَاوَلتَ تَفسيراً لهَا أَعْيـَاكَ |
نَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ تَعثَّر بالبِلَى فَكَسَاه, وَمَنْ تَأثَّرَ بَالسُّقْمِ فَعَافَاه, وَنشْكُرُهُ عَلَى أَنْعَامِهِ الَّتِي تَمُور, وَأفْضَالِهِ المَمْدُودَةِ بِلا فُتُور, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ فِي أُلوْهِيَّتِهِ وَفِي رُبُوبِيَّتِهِ وَفِي أَسْمَائِهَ وَصِفَاتِهِ, تَنزَّهَ عَنِ النِّد وَعَنِ الشَّبِيِهِ, وَعَنِ المَثِيلِ وَعَنِ النَّظِيرِ, لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهَوَ السَّمِيعُ البَصِير, وَأشْهَدُ أّنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه, فَلْقَةُ القَمَرِ التي أَنَارَتْ الظَّلْمَاء, وَغَيْمَةُ العَزَائِمِ التي سَقَتْ الجَدْبَاء, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ الأطْهَارِ النُّجَبَاء, وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْراً إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أَمَّا بَعْد: فَأُوصِيْكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنفْسِي بِتَقَوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلّ-, فَسَعَادَةُ القَلْبِ خَرَاجُهَا, وَرِيَاضُ الجَنَّةِ نِتَاجُهَا (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3], (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96].
أيُّهَا المُؤمِنُون: خُيُولٌ قَدْ أجْلَبَتْ, ومُهَجٌ قَدْ أجْدَبَتْ, سُحُبٌ تَلُوح, وأُخْرَى تَرُوح, الكِنَانةُ قَدْ اسْتَنْفَدَت النِّصَال, وَالجُنُودُ قَدْ أَبْدَوا النِّضَال, فَهَا هِيَ الحَرْبُ سِجَال, غَدَاً سَتَنْهَالُ الأفْوَاجُ إِلَى أَبْوَابِ المَدَارِسِ؛ لِيَأْخُذُوا عُصَارةَ جُهْدِهِم, وَوِفَادَةَ أَتْعَابِهِم, وَيَتَسَلَّمُوا نَتَائجَ الامتحانات, فَتَتَهَلَّلُ سَبُحَاتُ الوَجُوه, ويَسْرِي فِيْهَا الشُّرُوقُ زُلالا.
وطَائِفَةٌ هُنَاكَ قَدْ فَعَلَت مَا بِوُسْعِهَا, فلا النَّوْم ذَاقُوه, ولا الإهْمَالُ سَاقُوه, ولَكِن قُدِّرَ لهم غَيْرَ مَا أَرَادُوه, وصَرَفَهُم دُوْنَ مَا أَمَّلُوا القَدَر, فَلَمْ يُسَلِّمُوا بِهِ حُزْنَا, ولَمْ يُسَلِّم بِهِ آبَائُهُم قَلَقاً عَلَى المُسْتَقْبَل, فَأخَذَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُ التُّهْمَة عَلَى الآخَر, والآخَر يَطْرُدُهَا عَنْه, فَاسْتَغْلَقَتْ عَلَيْهِم مَعَالمُ اليَأْس, وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِم إِمَارَاتُ الفَشَل, فأخَذُوا يَجُرُّون أَسْمَال الذُّبُولِ, وَضَيَاعُ المُسْتَقْبَل, فَضُرِبَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ الرِّزْقِ بَاب.
أِخْوَةَ العَقِيْدَة: لَقدْ وَرَدَ فِي السُنَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابن هُبَيْرَة, عَنْ عُمَر بنَ الخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- يَقُول: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرزق الطَّيرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً". [رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه]. أي: تَوَكُّلاً حَقِيقِيَّاً تَعْتَمِدُونَ عَلَى اللهِ فِيه, واعْتِمَاداً كَامِلاً فِي طَلَبِ رِزْقِكُمْ.
وَيَقُولُ عُمَر بن الخَطَّاب: "بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رِزْقِهِ حِجَاب , فَإن قَنِعَ وَرَضِيتْ نَفْسُه, أَتَاهُ رِزْقُهْ, وَإِن اقتَحَم وَهَتَكَ الحِجَاب, لَمْ يَزِد فَوْقَ رِزْقِه".
فَأينَ هُوَ مَعْنَى التَوكُّلِ في نُفُوسِنا؟, وأينَ هَوَ تَفْوِيضُ الأمْرِ إِلَى الله بَعْدَ فِعْلِ الأسْبَاب؟, فَمَا هي حقِيقةُ التوَكَّل؟ وَمَا مفْهُومُه؟.
يَقُولُ ابن الجوزي عن بعضهم: "التَوَكُّلَ هُوَ تَفْوِيْضُ الأمْرِ إِلَى اللهِ ثِقَةً بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ". ويقُولُ ابنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِي: "هُوَ صِدْقُ اعْتِمَادِ القَلبِ عَلَى اللهِ -عَزِّ وَجَلّ- فِي اسْتِجْلابِ المَصَالِحِ وَدَفْعِ المَضَارّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ كُلِّهَا". وَيقُولُ ابْنُ حَجَر: "وَقِيلَ التَوَكُّلُ هُوَ قَطْعْ النَّظَرِ عَنْ الأسْبَابِ بَعْدَ تَهْيِئَةِ الأسْبَاب".
فَلِمَاذَا بَعْدَ كُلّ هَذهِ الآثَار نُبْقِي في قُلُوبِنَا حَسْرةً تَصْرِفُنَا عَنْ صَفْوِ الحَيَاة إِلَى كَدَرِهَا؟ وَنَجْعَلُ الشَّهَادات هيَ مَصْدَرُ رِزْقِنَا, فلا مُسْتَقْبَلَ إِلا بِشَهَادَة, فاسْمَع أَنْتَ -أَيُّهَا الأبُ الحَانِي- إلى جَوَابِ الحَسن البَصْرِيّ حِينَ سُئِلَ عَنْ سِرِّ زُهْدِه فِي الدُّنيَا فَقَال: "أَرْبَعَة أَشْيَاء: عَلِمْتُ أَنَّ عَمَلِي لا يَقُومُ بِهِ غَيْرِي فَاشْتَغَلَتُ بِهِ, وَعَلِمْتُ أَنَّ رِزْقِي لا يَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي فَاطْمَأنَّ قَلْبِي, وَعَلِمْتُ أّنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيِّ فِاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَرَانِي عَلَى مَعْصِيَة, وَعَلِمْتُ أَنَّ المَوْتَ يَنْتَظِرُنِي فَأَعْدَدْتُّ الزَّادَ للِقَاءِ رَبِّي".
وَارْعِ سْمَعَكَ أَنْتَ -أَيُّها الطَّالِبُ المَغْمُور- ورَاقِب المَشْهَد, رَأَى إِبْرَاهِيْمُ بن أَدْهَم رَجُلاً مَهْمُومَاً فَقَال لَه: "أَيُّهَا الرُّجُل إِنِّي أَسْأَلُك عَنْ ثَلاثٍ تُجِيْبُنِي قَالَ الرَّجُلُ: نَعَم.
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ بن أَدْهَم: أَيَجْرِي فِي هَذَا الكَونِ شَيءٌ لا يُرِيْدُهٌ الله؟ قَالَ: كَلا.
قَالَ إِبْرَاهِيْم: أَفَيَنْقُصُ مِنْ رِزْقِكَ شَيءٌ قَدَّرَهُ اللهُ لَك؟ قَالَ: لا
قَالَ إِبْرَاهِيْم: أَفَيَنْقُصُ مِنْ أَجَلِكَ لَحْظَةٌ كَتَبَهَا اللهُ فِي الحَيَاة؟ قَالَ: كَلا
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ بن أَدْهَم: فَعَلامَ الهَمُّ إِذَن؟".
وقَد قَال الله تَعَالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 22، 23], فَإِذَا أَرَدْتَّ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَكِيلَكَ فِي كُلِّ حَالٍ فَتَمَسَّك بَالتَوَكُّلِ فِي كُلِّ حَال. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء: 81].
وَإِذَا أَرَدْتَّ أَنْ يَكُونَ الفِرْدَوْسَ الأعَلَى مَنْزِلَك فَانْزِل فِي مَقَامِ (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 42].
فَكُّلُّ مَخْلُوقٍ فِي هّذا العَالَم قَدْ قُدِّرَ لهُ رِزْقُهُ, فلا يَيْأس وَلا يَقنَط مِن رَحْمَة الله, وَلْيُحسِن الظنَّ بِرَبِّه وَفِي الحَدِيث: "أَنَا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي". قَالَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله فِي الفَتْحَ: "أَيْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَعْمَل بِهِ مَا ظَنَّ أَنِّي عَامِلٌ بِه".
وَلَقَد كَانَ سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ يِدْعُوَ رَبَّهُ فَيَقُول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِدْقَ التَوَكُّلِ عَلَيْك وَحُسْنَ الظَنِّ بِك", يَقُولُ الشَّافِعِي:
فَفِيْ أَيَّ شَيْءٍ تَذَهُبُ النَّفْسُ حَسْرَةً | وَقَدْ قَسَّمَ الرَّحمنُ رِزْقَ الخَلائِقِ |
أَيُّهَا المُوَحِّدُون: إِنَّ تَعَلُّق النَّفْسِ بِأسْبَابِ الدُّنْيَا, وكَوْن غَايةِ مُرَادِها المُيُول إِلَى مُتَطَلَّبَاتِ العَيْشِ فِيْهَا, واللًّهْث وَرَاءَ ذَلِك الهَدَف, واستِجْلاب أسْبَابِه فَحَسْبْ, دُونَ الالْتِفَاتِ إلى الخِطَابِ القُرآني, وَالوَعْد الرَّبَّانِي, هَو مِن ضَعْفِ التَّوحِيد.
فَيَتَوجَّبُ عَلَى المُسْلمِ أن يُوطِّدَ هَذا المَعْنَى فِي قَرَارَةِ نَفْسِه, وأَن تَسْتَقِرَّ مَفَاهِيم التَوَكُّلِ في خَلَدِه, فَعِنْدَهَا سَتَسْمُو الرُّوح إلى أرقَى مَعَاني العُبُودِيَّة, وأسمَى مَرَاتِبِهَا, فَتَكُون مَعَ الله في كُلِّ سَكَنَاتِهَا وَحَرَكَاتِهَا, فَيَكُونُ نَتَاجُ هَذَا المَحْصُول هُوَ العَيْش مَعَ الله.