الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبدالله محمد الطوالة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
والمتأمل في أحوال الشبابِ اليوم، يلحظُ بوضوحٍ, مدى تفشي الانحِرافِ بينهُم، وإلى أي مدىً وصل تدني أخلاقِهم؛ هجرٌ للصلوات، وتعاطي للممنوعات والمخدرات، وتزايدٌ مخيفٌ في جرائم الشرف, والعلاقات المحرّمة بين الجنسين، وكذلك ما يتعلق بانحراف العقائد، واعتناق الأفكار الإلحادية التي تشكك في ثوابت الدين ومسلماته, وأغلب ذلك يأتي تقليدًا أعمى لليهود والنصارى...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ اللهِ ذي العظمةِ والكبرياءِ، المتفردِ بالديمومة والبقاءِ، المتوحِدِ بالعزِّ والمجدِ والسناءِ، المتصفِ بأجلِّ الصفاتِ وأحسنِ الأسماءِ، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 6], وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهَ، ذلَّ لجبروته العظماءُ، وقامت بقدرته كلُّ الأشياءِ، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)[هود: 7], وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهُ ورسولهُ، وصفيه وخليله، إمامُ الأنبياءِ، وصفوةُ الأولياءِ.
وأجملُ منك لم ترَ قطُّ عَينٌ | وأفضلُ منك لم تلدِ النساءُ |
خُلِقتَ مبرّأً من كلِّ عيبٍ | كأنّك قد خُلِقتَ كما تَشاءُ |
صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آله السادةِ النجباءِ، وأصحابهِ البررةِ الأتقياءِ، والتابعين وتابعيهم مادامتِ الأرض والسماء.
أمَّا بعدُ: فأوصيكم -أيُّها النَّاسُ- ونفسي بتقوى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، فاتقوا اللهَ -رحمكم اللهُ-، اتقوا الله؛ فمن أصلحَ سريرتهُ أصلحَ اللهُ لهُ علانيتَهُ، ومن عملَ لدينه يسَّرَ اللهُ لهُ أمرَ دنياهُ، ومن أحسَنَ فيما بينَهُ وبين اللهِ, أحسَنَ اللهُ ما بينَهُ وبين النَّاسِ، ومن عرَفَ الدنيا هانت عليهِ مصائبُها، فاتقِ اللهَ -يا عبد اللهِ- حيثُما كنتَ، واحفَظِ اللهَ يحفظكَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[هود: 114، 115].
معاشر المؤمنين الكرام: ما من إنسانٍ إلا ولديه أمنياتٌ كثيرات, وإن من أعز الأمنيات أن يرزقَ اللهُ الانسانَ ذُرِّيةً طيبةً، وولداً صالحاً يَبرُهُ ويدعو له؛ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74].
الأبناء -يا عباد الله- مصابيحُ البيوت، وقرةُ العيون، وفلذاتُ الأكبادِ تمشي على الأرض, هم روضةُ الدنيا وزينتُها, ونبضُ الحياةِ وبهجتُها، هم أحبابُ الرحمن, وهبةُ المنان، وهم بذورُ اليومِ, وزهورُ الغدِ, وثمارُ المستقبل، بنجاحِهم يقاسُ تقدُم الأُمم، وبسواعِدهم تُبنى الأمجاد، وتعتلى القمم، وصدق الله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 46], وفي الحديث: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفعُ به، أو ولد صالح يدعو له".
والأبناءُ -أعانني اللهُ وإياكم- أمانة, إنهم أمانةُ الله في أعناق الآباء، وتربيتهم والعنايةُ بهم فريضةٌ ومسؤوليةٌ من أعظم المسؤوليات, ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته, ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدناها تُهيبُ بالآباء أن يقوموا بمسؤولياتهم تجاه أبنائهم، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6], فالمسؤولية عظيمةٌ رهيبةٌ، وعواقبُ إهمالِها خطيرةٌ فظيعةٌ, وقد ضمن الله لنا الرزق، ولم يضمن لنا النجاة، قال -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].
والتربيةُ -يا عباد الله- تعني صناعةَ الإنسان، وتعني تشكيل مُسلَّماتهِ وقِيمهِ ومُعتقداتهِ، كما أنها توجيهٌ للفكرِ, وتهذيبٌ للسلوك، وتقويمٌ للأخلاق, التربية الصحيحةُ هي التي تبنِي في نفس الناشئِ الفضائِل، وتصونه من الرذائِل, إنها رعايةٌ شاملةٌ لشخصية الإنسانِ وسلوكهِ، وهي التي تعملُ على إيجاد الفردِ المتوازن الذي يعبدُ اللهَ, ويعمرُ الأرضَ, ويعملُ للدنيا بقدر بقاءهِ فيها، ويعملُ للآخرة بقدر بقائه فيها.
والشبابُ هم ثروةُ الأمّةِ الغالية، وهم ذُخرَها الثمين، وهم قوتها وعِمادُها، وهم سندُها وسِلاحُها، وهم العَصَبُ الفعَّال في حياتها، هم الذين يدفعون عجلة التاريخِ نحو مستقبلٍ مشرقٍ وضاءٍ، أو يركلونها إلى الوراء, جهلاً وحُمقًا وشقاءً؛ ولذا فإن انحرافَهُم هو أعظمُ ما يشغلُ المربين والآباء، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله.
والمتأمل في أحوال الشبابِ اليوم، يلحظُ بوضوحٍ, مدى تفشي الانحِرافِ بينهُم، وإلى أي مدىً وصل تدني أخلاقِهم؛ هجرٌ للصلوات، وتعاطي للممنوعات والمخدرات، وتزايدٌ مخيفٌ في جرائم الشرف, والعلاقات المحرّمة بين الجنسين، وكذلك ما يتعلق بانحراف العقائد، واعتناق الأفكار الإلحادية التي تشكك في ثوابت الدين ومسلماته, وأغلب ذلك يأتي تقليدًا أعمى لليهود والنصارى، وصدَق من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- القائل: "لتتبعُنَّ سنن الذين مِن قَبلِكم، شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذِراع، حتى لو دخَلوا في جحر ضبٍّ لاتَّبعتموهم"(رواه الشيخان)، ولماذا جُحرُ الضبِّ بالذات؛ لأنه ضيقٌ ملتوي، شديد العفونة، لا يخلو من الهوام الضارة كالخنافس والعقارب, فهو أبعد ما يكون عمن أراد الخير والسلامة لنفسه.
ولا شك أن شباباً وصلوا لهذا المستوى المؤسف، لن يرفعوا شأنَ أمَّتهم، ولن يدفعوا عنها نكاية، بل هم وبالٌ على مجتمعهم، وعبءٌ ثقيلٌ عليه، وصدق من قال:
ما يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ | ما يبلغُ الجاهلُ من نفسه |
إذن فلا بُدَّ من وقفةٍ جادةٍ، ولا بُدَّ من تدارك الأمرٍ قبل فوات الآوان؛ ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً, يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ؛ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ", وروى الترمذي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما نحلَ والدٌ ولدهُ أفضلَ من أدبٍ حسن", قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "كم مِمن شَقِيَ ولدهُ وفلذةُ كبدهِ في الدنيا والآخرة, وذلك بإهماله وتركِ تأديبهِ, وإعانتهِ على شهواته، يظنُ أنهُ يُكرِمُهُ وقد أهانهُ، وأنهُ يرحمهُ وقد ظلمهُ، ففاتَهُ انتفاعُهُ بولده، وفوَّتَ عليهِ حظَّهُ في الدنيا والآخرة، وإذا تفكرتَ في فساد الأولادِ رأيتَ أنَّ عامتهُ مِنْ قِبَلِ الآباء", وقال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "إن الصبي أمانةٌ عندَ والديه, وقلبهُ الطاهرَ جوهرةٌ نفيسةٌ خاليةٌ من كل نقشٍ، وهو قابلٌ لكلِّ ما يُوضَعُ فيه، فإن عّوِّدَ الخيرَ نشأَ عليهِ, وسَعُدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّدَ الشَّرَ, وأُهمِل إهمالَ البهائِم, شَقِيَ وهَلك، وكان الوزرُ في رَقبةِ مُربيهِ والقيِّمِ عليه".
يا عباد الله: الناسِ كلُّهم يعلمونَ, يعلمون جيداً أن الأمَّةَ لا تفْسُدُ حين تفسُد إلا حين تفسُدُ أجيالهُا, ولا ينالُ الأعداءُ من أمَّةٍ إلا إذا نالوا من شبابِها وفتياتِها، وتحكموا في توجهاتهم واهتماماتهم.
ولقد رسم النبي -صلى الله عليه وسلم- منهجاً واضحاً في تربيته لشباب الصحابة؛ فقد أوصى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بتلك الوصية العظيمة، التي بداها بقوله: "يا غلام! إني أعلمك كلمات"، وفي رواية: "ألا أعلمك كلماتٍ ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف", ومن حكم الإمام الشافعي -رحمه الله-: "نفسكُ إن لم تشغلها بالحق, شغلتك بالباطل", والشاب إن لم ينشغل بالمعالي, تخطفته الأفكار الطائشة، وعاش في دوامة من التُرهاتِ والتوافِه, وصدقَ من قال:
إن الفراغ والشباب والجدة | مفسدة للمرء أي مفسدة |
والهوى كما قيل لا يدخُل إلا على ناقص, ألا وإن حُبَّ الشهوات، وإيثارَ الملذات، والركونَ للراحة والدعة، هو الذي يُسْقِطُ الهممَ، ويفتِّرُ العزائمَ، فكم من فِتيانٍ يتساوونَ في نَباهةِ الذِهنِ، وذكاءِ العقلِ، وقوةِ البصيرةِ، ولكن قويّ الإرادةِ منهم، وعاليَ الهمةِ فيهم، تراهُ هو الناجِحُ من بينهم، وهو الذي يجدُ ما لا يجدون، ويبلغُ من المنازل والمحامد ما لا يبلغون, ألا وإن قويَّ العزيمةِ منْ تكونُ إرادتهُ تحتَ سُلطانِ دينهِ وعقله، وليس عبداً لشهواته، أسيراً لملذته؛ "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ".
والله الموفق من قبل ومن بعد، وفي كتاب الله إخبارٌ عن أنبياء اللهِ، ولجوئهم وتضرعهم إلى ربهم، وسؤالهم صلاح الذرية، من قبلِ وجودِهِم ومن بعدِ مجِيئهِم, فمن دعاء زكريا -عليه السلام-: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[آل عمران: 38], ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة, وكلُّ صالحٍ من عباد اللهِ يبتهلُ إلى ربه: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)[الأحقاف: 15], ومن دعاء المؤمنين في القرآن الكريم: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74].
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ, وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
أحمد الله على إحسانه وأفضاله؛ كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأصلي وأسلم على نبيه المكمل بإرساله، المؤيد في أقواله وأفعاله، وعلى جميع صحبه وآله.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين, وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18].
أخيَّ الشابَّ المؤمن: اعلم وفقك الله لمرضاته أن المسؤولية كبيرة، وأن الحِمل ثقيلٌ، لكن إن لم تكُن لها فمن لها؟!.
قد هياؤك لأمرٍ لو فطنت له | فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل |
واعلم -ابني المبارك- أن بين يديك أصحَّ تُراثٍ سماويٍّ، وفي قرآنِك رِيُّ العالَم وعافيتُه, فيمَّم شطرَ الفلاح، وخُذ من مِشكاة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9]، ثم أتبِع سببًا, واعلم أن طريقَ العُلا والمكرُمات يحتاجُ إلى تعبٍ وبذلٍ وتضحيات, ومن خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزِلَ, وكلُّ من سارَ على الدرب وصل, وإذا عرفَ الإنسانُ شَرفَ ما يطلبُ، هانَ عليه ما يبذُلُ, (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69], فاستفرِغ الجهدَ والطاقَةِ، وتزود بالعلم والإيمانِ، وعليك بعُلوِ الهمَّةِ، وقوةِ الإرادةِ، وسموِ النفسِ.
فعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ | وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ |
ومن تكُنِ العلياءُ همَّةَ نفسهِ | فكلُّ الذي يلقاهُ فيها محبَّبُ |
ومن كانت له نفسٌ تواقةٌ, طارت به نحو المعالي, والعملُ الجادُّ إن لم يوصِلك للقمةِ فسيقربُكُ منها كثيراً.
ومن طلبَ العُلا سَهِرَ الليالي | وبقَدْرِ الكدِّ تُكتَسبُ المعالِي |
ومن رامَ العُلا من غير كَدٍّ | أضَاعَ العُمرَ في طلب المُحالِ |
ومن يتهيب صُعودَ الجِبالِ | يعِشْ أبدَ الدَّهرِ بين الحُفر |
فكُن رجُلاً إن أتوا بعدهُ | يقولونَ مرَّ وهذا الأثر |
وإذا لم تزِد شيئاً على الدنيا بعطائك؛ كنت أنت الزائدَ عليها بعطالتك، وما لم تكُن قد وهبتَ نفسك لغايةٍ عظيمةٍ؛ فحياتُك لم تبدأ بعد.
وإن كنت ذا رأيٍّ فكن ذا عزِيمةٍ | فإن فسادَ الرأي أن تَتَردَّدا |
وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ كِبَارًا | تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجْسَامُ |
واعلم أن الشباب الصالحين الجادين هم الذين يغيرونَ مجرى التاريخِ، وهم الذين يصنعون الأحداثَ، وهم الذين يبنون الأمجادَ, فسابِق نحو العُلا، ونافِس في المكرُمَاتِ، وزاحِم قوافِلَ العُظماءِ.
وتيقن -أيها المبارك- أنك لست بأقلَ من غيرك، ولا أبطأَ ممن سبقك، ولا أدنى ممن فاقك، وأنك من صنع أفكاركَ، وأنه كما تُفكِر ستكون، وكما تتوقعُ -بإذن الله- سيقع, فغير قناعتك؛ لتتغير حياتك، فقد صُنِعَت السُفُن لتخوضَ البحار وتُصارعَ الأمواج، وخُلِقتَ أنت لتكونَ خليفةً في الأرض، مكانُك هناك، فاستنفر همتك، واحرِص على ما ينفَعُك, حدِّد أهدافك، وجهِز أدواتك, وركِّز تُنجِز، واجتَهِد تُحرِز، وسابِق تفُز، واستعِن بالله ولا تعجَز، وسِرْ على بركة الله، وقُمْ وانطلِق إلى حيثُ تستحِق، وهيَّا لتكون أفضلَ ما يمكنُك أن تكون، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 128].
وفقك اللهُ ورعاك، وألهمَك رُشدَك وهداك، وسدَّدَ على درُوب الخيرِ خُطاك, ويا ابن آدم! عش ما شئت؛ فإنك ميت، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت؛ فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلوا وسلموا على سيدنا محمد؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].