الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ما أحوجَ الأمةَ اليومَ إلى سابِقِينَ مُبادِرِينَ في وجوه الخيرات، مُبدِعِين متقنين مستفيدين من وسائل العصر وإمكاناته، يُعرَفون بأوليتهم وسابقتهم في الجِدِّ والمثابَرة والاجتهاد، مستندينَ في ذلك كله إلى كتاب ربهم، وسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ظهَر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبَهم بمشاهَدة صفات كماله، وتعرَّف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، فعَلِموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا شريك له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، بل هو كما وصَف به نفسَه، وفوق ما يصفه به أحد من خلقه، في إكثاره وإقلاله، لا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، على لسان مَنْ أكرمهم بإرساله، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملك الكبير المتعال، فَاوَتَ بين الناس في الخِلْقة والأرزاق والخصال، وفاضَل بين عباده في مراتب الكمال؛ ذلك ليعلم عبادُه أنه أنزَل التوفيق منازَله، ووضَع الفضل مواضِعَه، وأنه يختصُّ برحمته من يشاء، ذو الطَّوْل والإنعام، وأشهد سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أتقى الخلق لله وصفوته، وأهداهم في المقال والفِعَال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ذوي المناقب العليَّة، وكريم الفعال.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- وراقِبوه، وأخلِصوا له العمل، فطوبى لمن أخلَص عملَه لله، وابتغى إليه الوسيلةَ واتَّقاه، وأناب إليه وعَمِلَ بما يحبه ويرضاه، واحرِصوا على المسارَعة في الخيرات، والاستزادة من الباقيات الصالحات.
أيها المسلمون: إن من فضل الله على عباده، أَنْ جعَل منهم سبَّاقِينَ في فعل الخيرات، مقدَّمِينَ في إحراز شرف السَّبق في القربات، أوائل في المحاسن والفضائل، وهم للناس قدواتٌ، يصدُق عليهم قولُ ربِّ البرِيَّات: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)[الْأَنْبِيَاءِ: 73]، فكانوا هداةً مهديين، ومن عباد الله المخلَصِينَ، نالوا -بسَبْقِهم- الرتبةَ العليةَ، والمكانة السَّنِيَّة، وهذا من أكبر نِعَم الله على عبده؛ أن يكون إمامًا يهتدي به المهتدون، ويأتمَّ به المتقون، ويسلك طريقَه السائرون، فمنهم مَنْ أشاد اللهُ بسبقه، إذ قال جل في علاه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التَّوْبَةِ: 100]، فهؤلاء العظماء كانوا -بأوَّلِيَّتِهم- مشاعلَ هدًى لغيرهم، وقدواتِ خيرٍ لمن بعدهم.
عباد الله: ومما اعتنى به الصحابة الكرام ذكر أول مَنْ أسلَم منهم، في روايات وردت عنهم، قال ابن كثير -رحمه الله-: "والصحيح أن عليًّا أولُ مَنْ أسلَم من الغلمان، كما أن خديجةَ أولُ مَنْ أسلَم من النساء، وزيدُ بنُ حارثةَ أولُ مَنْ أسلَم من الموالي، وأبو بكرٍ الصديقُ أولُ مَنْ أسلَم من الرجالِ الأحرارِ"، وقال ابن حجر -رحمه الله-: "وممَّا اختصَّت به -يعني خديجةَ -رضي الله عنها- سبقُها نساءَ هذه الأمةِ إلى الإيمان، فسنَّتْ ذلك لكلِّ مَنْ آمَنَتْ بعدها، فيكون لها مثلُ أجرِهِنَّ؛ لِمَا ثبَت "أنه مَنْ سَنَّ سنةً حسنةً فعُمل بها بعدَه كُتِبَ له مثلُ أجرِ مَنْ عَمِلَ بها، لا يَنقُصُ من أجورهم شيءٌ)، وقد شارَكَها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يَعرف قدرَ ما لكلٍّ منهما من الثواب بسبب ذلك إلا اللهُ -عز وجل-.
فانظروا -رحمكم الله- لهذا الفضل الذي أحرزه هؤلاء السابقون؛ بأن كانوا أولَ مَنْ أسلَم وجهَه لله، واتَّبَع دينَ الحقِّ من هذه الأمة، فنَالُوا شرفَ السبقِ، وكانوا قدوةً لغيرهم؛ بأَنْ تتَابَع الناسُ بعدَهم يلتحقون بركب المؤمنين الناجين، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أولُ مَنْ أظهَر إسلامَه سبعةٌ: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، وعمَّار وأُمُّه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد"(رواه ابن ماجه).
إنها كرامة وأيُّ كرامة، أن يبادِرَ المرءُ بالدخول في دين الله، ويُشهِرَ إسلامَه مخالفًا لما كان عليه قومه؛ من الضلالة والكفر، صابِرًا على ما يلاقيه من أذى المشركين، متمسِّكًا بدين الله القويم، ثابتًا عليه، داعيًا إليه.
عبادَ اللهِ: وممَّن يُذكَر في الأوائل ويشاد بسبقه في الفضائل، خليل الله إبراهيم -عليه السلام-، فقد أخرَج ابن عساكر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان أولَ مَنْ ضيَّف الضيفَ إبراهيمُ"، وقد أثنى اللهُ -تعالى- عليه في كتابه العزيز، في إكرام ضيفه من الملائكة الكرام، فقال عزَّ من قائل: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)[الذَّارِيَاتِ: 24]، إلى قوله -تعالى-: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)[الذَّارِيَاتِ: 26-27]، وهذا العمل الجليل مَنقَبَةٌ عظيمةٌ له؛ إذ كان أولَ مَنْ بدأ هذه الخصلةَ الحميدةَ من خصال الخير، وتتَابَعَ الناسُ بعدَه يُضَيِّفون الأضيافَ، ويُكرِمُون النزيلَ، حتى جاء الإسلام فرفَع شأنَ هذا الأدب العظيم، وجعَلَه شعبةً من شعب الإيمان؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: "ومَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"(متفق عليه)، و(في الصحيحين) عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اختتن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم"، وقد أجمَع العلماءُ على أن إبراهيم -عليه السلام- أولُ من اختَتَن، ثم تتابَع الأنبياءُ على ملة إبراهيم -عليه السلام-، ومنها فِعْلُ هذه الفطرةِ الإسلاميةِ؛ بأن استمرَّ الختانُ بعدَه في الرسل -عليهم السلام- وأتباعِهم.
إخوةَ الإسلامِ: ومن أمثلة الأوليَّة في الخير ما جاء في الصحيحين أن عُمَرَ -رضي الله عنه- لما استأمَر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في أرض بِخَيْبَرَ أَصابها، قال له -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قال ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- فيما أخرجه أحمد وغيره: "أَوَّلُ صَدَقَةٍ -أَيْ مَوْقُوفَةٍ- كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ صَدَقَةُ عُمَرَ"، وَهذا الحَدِيثُ الوارد في قصة عمر أَصْلٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْوَقْف، ثم توالت أوقافُ الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، فمَن بعدَهم يبتغون مرضاةَ الله، والتقرُّبَ إليه.
ومن أمثلة ذلك كذلك ما (أخرجه مسلم) في قصة إسلام أبي ذر الغفاري، إذ قال رضي الله عنه: "كنتُ أولَ مَنْ حيَّا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بتحية الإسلام، فقال: وعليكَ ورحمة الله"، فحظي هذا الصحابي الكريم بهذا الفضل؛ أَنْ كان أول من ألقى التحية على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي تحية الإسلام، تحية أهل الجنة، التي ينبغي أن نحرص على إفشائها، ولا نستبدل بها تحية أخرى، ولا نكتفي بغيرها عنها، فهي التحية الأولى، وأشرف التحيات وأكرمها، فلما قال عمير بن وهب -رضي الله عنه- في حواره مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يدخل في الإسلام، وهي تحية أهل الجاهلية قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد أكرمنا الله -عز وجل- عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة، فقال عمير: إن عهدك بها لَحديث، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قد بدَّلنا الله خيرًا منها"(رواه الطبراني).
عبادَ اللهِ: ومن السبق في الخير ما رواه جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "أول مَنْ رمى بسهمٍ في سبيل الله سعد بن أبي وقاص"، فَفي الحَديثِ مَنقبةٌ ظاهرةٌ لِسَعْد رَضي الله عنه، بِبَلائِه وسابِقَتِه في الإسْلامِ، ودفاعه عن حياض الدين، وذوده عن حماه، وقد كان سعدٌ -رضي الله عنه- يعتزُّ بهذا الشرف فيقول: "إني لَأولُ العربِ رمَى بسهمٍ في سبيلِ اللهِ"(متفق عليه)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد يستخرج سهام كنانته ينثرها لسعد قائلا: "ارم فداءك أبي وأمي"، كما جاء في (صحيح البخاري).
ومما يُذكَر في هذا الباب أن سمية أمَّ عمَّارِ بن ياسر -رضي الله عنهما- هي أول شهيد في الإسلام، وكانت ممن عُذِّبَ في الله -عز وجل-؛ لترجعَ عن دينها فلم تفعل، وبَذَلَتْ روحَها في سبيل الله، ونالت تلك المكرُمةَ، وقد أخرج ابن سعد بسند صحيح، عن مجاهد -رحمه الله- قال: "أول شهيدة في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر، وكانت عجوزا كبيرة ضعيفة".
معاشر المسلمين: ومن الأوائل بلال بن رباح -رضي الله عنه- في أذانه، فعن القاسم بن عبد الرحمن -رحمه الله- أنه قال: "أولُ مَنْ أذَّن بلال"، فأكْرِمْ بهذا العمل الجليل، الذي هو شعارٌ من شعائر أهل الإسلام، ومن أفضل القُرُبات، وهو الدعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، دعوة إلى أداء الصلاة، عمود الإسلام.
ومما يُذكَر في الأولية حرصُ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- على جمع السنة؛ بأن كَتَبَ بذلك إلى أبي بَكْرِ بن حَزْمٍ وأمَر ابنَ شِهاب الزهريَّ بذلك أيضًا، قال ابنُ حجرٍ -رحمه الله-: "أولُ من دوَّن الحديثَ ابنُ شِهابٍ الزهريُّ، على رأس المئة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كَثُرَ التدوينُ، ثم التصنيفُ، وحصَل بذلك خيرٌ كثيرٌ، فلله الحمد.."، فانظروا -رحمكم الله- كيف تتابع التدوينُ والتصنيفُ في السُّنَّة النبوية بعد ذلك، وممَّا يجدُر ذكرُه هنا أنَّ أولَ مَنْ صنَّف في الحديث الصحيح المجرَّد الإمام البخاري -رحمه الله-، ثم تَبِعَهُ في هذا مَنْ تَبِعَهُ.
ومن شواهد السبق في عمل الخير: ما جاء في قصة القوم الذين قَدِمُوا من مُضَرَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى ما بهم من الفاقة تمعَّر وجهُه، فخطب في الصحابة وحثَّهم على الصدقة، فجاء رجل من الأنصار بصرة، كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى اجتمع كومان من طعام وثياب، فتهلَّل وجهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ مَنْ عَمِلَ بها بعدَه من غير أن ينقُصَ من أجورهم شيءٌ، ومَنْ سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ مَنْ عَمِلَ بها من بعده، من غير أن ينقُص من أوزارهم شيءٌ"(رواه مسلم)، وفي الحديث حثَّ على البداءة بالخير؛ ليستنَّ به، وتحذير من البداءة بالشر؛ خوف أن يستن به.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه، -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله واسع الجود والعطاء، أحمده حمدًا يبلِّغنا الزلفى إليه، ويُنزِلنا منازلَ السعداء، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، القائم له بحقه، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحسرة على الكافرين، وحجة على العباد أجمعين، اللهم صل وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ فيا عبادَ اللهِ: وكما أن هناك أوائل في الخير، وأئمة في الهدى، فهناك أيضا من هم على الضد من ذلك؛ إذ بلغوا شأوًا بعيدًا في الضلالة، ومبلغًا عظيمًا في الشر والغواية، وُصِفُوا بقبائح الأفعال والأحوال، وسلكوا طريق أهل الأهواء والأغمار، وكانوا في مقدمة ركب الغافلين الأشرار، بل وقدوة لأهل الفسق والزيغ والصَّغَار، ويصدُق عليهم قولُ العليِّ القهَّارِ: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)[الْقَصَصِ: 41]، فهم ضالون مضلون، ومن أمثلة ذلك -عبادَ الله- ما جاء في (الصحيح) عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ"، فهو أول من غيَّر دِينَ إبراهيم -عليه السلام- ودعا إلى الشرك وعبادة الأصنام، فكان جزاؤه أن يجر أمعاءه في النار؛ عقوبةً له، وزجرًا لكل من يعمل بعمله، ومن ذلك أيضا ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ"، هذا جزاؤه؛ لأنه أول من سن القتل، فكل من قتل بعده نفسًا بغير حقٍّ نالَه نصيبٌ من الإثم.
وممَّا ذكَر العلماءُ في مسائل الاعتقاد أن أول من قال بالقدر معبد الجهني؛ أي: هو أول من قال بنفي القَدَر، وادَّعى أن الله -عز وجل- لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، فكذب على الله وضل وافترى، تعالى اللهُ عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
عبادَ اللهِ: يحرص المؤمن على أن يكون سبَّاقًا لنَيْل الخير، مبادِرًا في طلب ما يُرضي ربَّه، وأن يكون قدوةً لغيره، فلما سأل اللهُ نبيَّه موسى -عليه السلام- بقوله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 83-84]، أي: عجلني إليك يا رب الطلب لقربك، والمسارَعة في رضاكَ، والشوق إليكَ، كما أن المؤمن ينأى بنفسه أن تكون مسارَعةً في المعاصي والخطايا، وقدوةً سيئةً يُقتدى بها في الشر؛ لذا فقد حذَّر اللهُ بني إسرائيل ونهاهم أن يكونوا مبادرين بالكفر، فقال تعالى: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)[الْبَقَرَةِ: 41]، أي: لا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر بالقرآن، فيقتدي بكم أناس آخرون، وبهذا تصيرون أئمة للكفر، وتَبُوؤُوا بإثمكم وإثم من اقتدى بكم من بعدكم.
أمةَ الإسلامِ: كم في الماضين من سلفنا الصالح، من الأوائل الأمجاد، الذين ضربوا أروعَ الأمثلة في التنافس على الخير، وكان لهم شرفُ السبقِ، وفضلُ الصدارةِ في العِلْم والعمل؛ فما أحوجَ الأمةَ اليومَ إلى سابقين مُبادِرِينَ في وجوه الخيرات، مُبدِعِين متقنين مستفيدين من وسائل العصر وإمكاناته، يُعرَفون بأوليتهم وسابقتهم في الجِدِّ والمثابَرة والاجتهاد، مستندينَ في ذلك كله إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وما أجدرَ أن يكون في الناس أوائلُ يَسُنُّونَ للناس سُنَّةً حسنةً فيتأسَّى بهم غيرُهم فتسمو نفوسهم وترتقي هممهم، وما أجدرَ أن يكون فيهم أوائلُ في الرسوخ في العلم، لهم فيه نبوغٌ وإتقانٌ، وفَهْمٌ وإحسانٌ، وحرصٌ على تبليغه ونشرِه بين الأنام، ويكون فيهم أوائلُ في طلب معالي الأمور وأشرافِها، ويكون فيهم أوائلُ في الأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة، والآداب الفاضلة، ومحاسن الأعمال، ويكون فيهم أوائلُ في الإصلاح بين الناس، ودعوتهم إلى المحبة والألفة واجتماع الكلمة، ويكون فيهم أوائل في الدعوة إلى الخير، وصنائع المعروف، وقضاء حوائج الناس، وتفريج كُرُباتهم، ويكون فيهم أوائلُ في الكرم والبذل، والجود والإنفاق، والعطاء والسخاء، ويكون فيهم أوائلُ في استثمار سبل الدعوة، ونشر الدين الحنيف، ومحاسن الإسلام في العالَمِينَ، ويكون فيهم أوائلُ في توجيه وتربية النشء، وشغلهم بالنافع المفيد، وما أحوجَ الأمةَ كذلك إلى سابقاتٍ صالحاتٍ قانتاتٍ في الاعتزاز بالدين والمحافَظة على أوامر ربِّ العالمينَ.
إننا -عباد الله- بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أن نحذوَ حذوَ كلِّ صاحب قدوة في مجاله، من أهل السبق والفضل والأولية، فنسلك سبيلَ العلماء الربانِيِّين في علمهم، والطائعين العابدين في إخباتهم لربهم، والتائبين المنيبين في توبتهم، والذاكرين الله كثيرًا في ذكرهم، والصابرين في صبرهم، والشاكرين في شكرهم، والصادقين في صدقهم، والثابتين على دينهم ومبادئهم في ثباتهم، والجادِّين والمتقِنِينَ أعمالهم، والمحافظين على أوقاتهم في جِدِّهم واجتهادهم، والبارِّين آباءهم في بِرِّهم، والواصِلِين رحمهم في وصلهم، وهكذا في كل مجال من مجالات اتباع سبيل المؤمنين.
ألا وصلوا وسلِّموا -عبادَ اللهِ-، على خير خلق الله؛ امتثالًا لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، واحم حوزة الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تُشمِت بنا عدوًّا ولا حاسدًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِح الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن لإخواننا المستضعَفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابِطين على الثغور وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا.
اللهم إنَّا نعوذ بكَ من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتِكَ، وفُجاءة نقمتِكَ، وجميع سخطِكَ، اللهم اشفِ مرضانا، وارحمِ موتانا، وبلِّغْنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالَنا.
اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، وسيئ الأسقام، اللهم ارفع عنا وعن المسلمين كل داء ووباء وبلاء، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.