البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن كثيرا من الآباء يهمل تفقد أبنائه, ولا ينظر مع من يذهبون ولا من يقصدون؟؛ ولهذا تجد الخلل الواضح في التربية, والبون الشاسع بين الآباء والأبناء في التعامل والجفوة بينهم, وبعض الآباء يتفقد أبناءه, ويتعرف على أصحابه, ولكنه ينسى نفسه فيصحب الأشرار والمجرمين...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد للهِ الحكيم, وأشهدُ ألا إله إلا اللهُ المولى العظيم, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, وصفيّه وخليله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, وسلم تسليما كثيرا.
فيا أيها الناس: اتقوا الله -جل وعلا- وراقبوه, وكونوا في الدنيا كمسافر عابر سبيل, أو كغريبٍ مقيم في غير وطنه؛ فهو لاه في مرمة جهاز سفره.
معاشر المسلمين: فطر الله الخلق على الأنس بالآخرين, فأرواح تتآلف وأخرى تتخالف؛ كما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف, وما تناكر منها اختلف".
حتى إن الناس ليعدون الرجل الانطوائي الذي لا يألف الناس رجلا غير سوي!, ولقد أوضحت السنة أنه لا خير في مثل هذا النوع؛ كما أخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن يألف, ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف", بل إن الانصراف عن الآخرين, وعدم لين الجانب معهم, وعدم التعرف على الجيران والزملاء في العمل؛ يعد عند الناس من علامات الكبر.
عباد الله: إذا تبين هذا علم أنه لا بد للمرء من صحبة وزمالة في هذه الحياة, وهذه الصحبة والزمالة تتأرجح بين فئتين: صالحة وسيئة, والمرء على خلق من يصحب؛ كما أخرج أبوداود في سننه من حديث أبي هريرة مرفوعا؛ "الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل", وكما قال الأول:
عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ | فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارِنِ يَقتَدي |
وقال الآخر: "الطيور على أشكالها تقع".
أيها المؤمنون: إذا علم هذا فإن لكل إنسان صحبة, ومن لم يكن له صحبة من الإنس فله صحبة من الجن؛ لهذا على المرء أن يختار الصحبة الصالحة, التي تدله على الخير وتحثه عليه, وتنفره من الشر وتحذره منه.
إن قرين السوء له أضرار كثيرة منها:
أنه يقود صاحبه إلى النار؛ كما قال -تعالى- في سورة الصافات (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)[الصافات: 50 - 53]؛ فناداهم ملك من الملائكة فقال لهم: (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الصافات: 54 - 57]؛ يقول: لولا فضل ربي علي بعدم صحبتك؛ لكنت من أهل النار.
وقال -تعالى-: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[الصافات: 22، 23]؛ أزواجهم يعني: نظراءهم, وقال -تعالى-: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)[التكوير: 7], وقد ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يحب القوم؛ ولما يلحق بهم, فقال: "المرء مع من أحب", قال أنس -رضي الله عنه-: "فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث"، وفي رواية عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "إني لأحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأحب أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ وأرجو أن الله يبعثني معهم, وإن لم أعمل كعملهم".
عباد الله: إن ما مضى من الآيات والآثار دال على أن المرء يحشر مع أصحابه في الدنيا, بل ويكون في درجتهم؛ ولهذا يتعين على المرء أن يختار من يصحبه في الدنيا؛ لأنهم أصحابه في الآخرة .
ومن أضرار صحبة السوء: ما أخرجه البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-, وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي عم! قل لا إله إلا الله؛ أحاج لك بها عند الله", فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟! وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة, فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب, وأبى أن يقول: لا إله إلا الله, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأستغفرن لك؛ ما لم إنه عنك", فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113], وأنزل الله في أبي طالب: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص: 56]؛ ففي هذه القصة عبرة لكل معتبر؛ فهذا أبو طالب أثر عليه أصحاب السوء حتى مات على الكفر, وصارت النار مستقره وبئس القرار.
وعلى العكس فالصحبة الصالحة تقود بصاحبها إلى الجنة, أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي -صلى الله عليه وسلم- وضوءه ويناوله نعليه فمرض, فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا فلان! قل: لا إله إلا الله", فنظر إلى أبيه فسكت أبوه, فأعاد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-, فنظر إلى أبيه, فقال أبوه: أطع أبا القاسم, فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أخرجه بي من النار".
معاشر المؤمنين: قد يغتر العبد ببعض أهل الشر فيصحبه, ولكنه سيندم وذلك حين لا ينفع الندم, نعم؛ لا ينفع الندم لأنه عاين العذاب؛ كما قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[الفرقان: 27 - 29].
فمن أردا أن لا يندم في الآخرة فليحسن الصحبة في الدنيا, فلا صحبة تنفع يوم القيامة إلا لأهل التقى؛ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].
اللهم ارزقنا صحبة الأخيار, التي تدل على الخير, وتحث عليه, وتنفر من الشر وتحذر منه, واستغفروا الله إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أيها المؤمنون: إننا في زمن قل فيه الصاحب الناصح, وكثر فيه البطالون وأهل المصالح الدنية؛ ولهذا كان لزاما على المرء أن ينتقي له ولأولاده الصحبة الصالحة.
أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون الناس كإبل مائة؛ لا يجد الرجل فيها راحلة"؛ قال ابن حجر: "المعنى: لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد, وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة؛ بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه".
معاشر المؤمنين: إن كثيرا من الآباء يهمل تفقد أبنائه, ولا ينظر مع من يذهبون ولا من يقصدون؟؛ ولهذا تجد الخلل الواضح في التربية, والبون الشاسع بين الآباء والأبناء في التعامل والجفوة بينهم.
وبعض الآباء يتفقد أبناءه, ويتعرف على أصحابه, ولكنه ينسى نفسه فيصحب الأشرار والمجرمين؛ فيفرط إما في حق الله, أو في حقوق الناس؛ بل إنه ليصحب أقواما لو صحبهم ابنه لنهاه عنهم.
عباد الله: لقد ضرب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للجليس الصالح والجليس السوء مثلا عظيما؛ كما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل الجليس الصالح والسوء؛ كحامل المسك ونافخ الكير, فحامل المسك إما أن يحذيك, وإما أن تبتاع منه, وإما أن تجد منه ريحا طيبة, ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك, وإما أن تجد ريحا خبيثة"؛ فهذا مثل عظيم بين فيه المصطفي حال صاحب السوء وصاحب الخير, فصاحب السوء لا يخرج عن أحد هذه الأمور؛ إما أن يحرق ثيابك؛ وذلك بفتنتك على معصية, أو إيقاعك في المشاكل, وإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن تجد منه ريحا خبيثة؛ وذلك بالسمعة السيئة التي تكتسبها بين الناس, من جراء رؤيتهم لك معه.
وإن للصاحب الصالح فوائد عظيمة؛ منها: أنه يذكرك إذا نسيت, ويقومك إذا اعوججت, ويحفظ عليك عورتك, ويرفأ من خلتك, ويسدي لك النصيحة دائما أبدا.
ألا فليراجع كل منا نفسه, فينظر إلى أصحابه: هل فيهم من يفعل ذلك؟, فإن وجد فليعض عليه بالنواجذ, وإن قدر أنه عُدم الجليس الصالح فليعتزل الناس؛ فالعزلة خير من رفيق السوء؛ ولهذا أمر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- المسلم في آخر الزمن عند فساد أمره أن يعتزل الناس, ويعبد الله في شعب من الشعاب, أخرج البخاري من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما, يتبع بها شعف الجبال, ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن".
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ, (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].