البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ولا سعادة في الحياة بلا صِحَّة، ولا لذّةُ في طعامٍ وشرابٍ لمريض، ولا قيمةَ للجاهِ والمالِ مع المرض وغلبةِ الأدواء، وكيف تحلو العبادةُ وتكتمِلُ مع السقم؟ فيا اللَّه! ما أهنأَ الصحيحَ وأسعَده إن شكر!، وما أشقى السقيمَ وأتعسه إن ضَجِر!
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أَمَّا بَعْدُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: نِعَمُ الله -تعالى- علينا لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وَيُصرّفها كيف يشاء بين عبادِه، فيعطي هذا، ويمنع ذاك، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويقدِره على مَن يشاء. ومِن أعظم النِّعَم نعمة الصّحّة والعافية في الجسَد، والسلامة من الأسقامِ والأدواء؛ فالصحَّة التامّة والسلامة من العِلَل والأسقام في البدن ظاهرًا وباطنًا سببٌ للحياة الهنيّة المستقِرّة والكمال الدنيويّ المنشود.
بل جعلها الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- مع الأمن والشبع تعدل الدنيا؛ فَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"(رواه الترمذي وحسنه الألباني).
ولا سعادة في الحياة بلا صِحّة، ولا لذّةُ في طعامٍ وشرابٍ لمريض، ولا قيمةَ للجاهِ والمالِ مع المرض وغلبةِ الأدواء، وكيف تحلو العبادةُ وتكتمِلُ مع السقم؟ فيا اللَّه! ما أهنأَ الصحيحَ وأسعَده إن شكر!، وما أشقى السقيمَ وأتعسه إن ضَجِر!
ولكل داءٍ دواءٌ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ إِلَّا السَّامَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: "الْمَوْتُ"(رواه الحاكم في المستدرك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني).
أيها الإخوة: والأمراض والأسقام من جملة ما يبتلي الله -تعالى- به عباده، امتحاناً لصبرهم، وتمحيصاً لإيمانهم؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ"(رواه الترمذي وحسنه الألباني).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قال: قَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ، فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"(رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: "مَا لَكِ؟ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟" -أي: تَرْتَعِدِينَ-، قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: "لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ"(رواه مسلم). وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَانُوا يَرْجُونَ فِي حُمَّى لَيْلَةٍ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ"(رواه ابن أبي الدنيا).
أيها الأحبة: المرضُ ابتلاءٌ كتبَهُ اللهُ على البشرِ، ومع ما وَعَدَ اللهُ -تعالى- به المرضى من الأجر إذا صبروا، شرع لهم بلطفه ورحمته التداوي، وهو على قسمين: الأول: التداوي مما نزل من المرض. الثاني: التداوي مما يخاف نزوله من المرض، وهو المسمى التطعيم أو أخذ اللقاح.
وقد أبان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- ذلك خير بيان؛ فأما عن القسم الأول وهو التداوي عما نزل من المرض؛ فقال: "الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الصواب أن التداوي مستحبٌّ بالأدوية الشرعية المباحة التي ليس فيها حرام كالتداوي بقراءة القرآن والرقية، التداوي بالكي عند عدم وجود دواء آخر، فالكيّ لا بأس به عند الحاجة، والتداوي بأمورٍ مباحةٍ لا بأسَ به كذلك، وقد رقى النَبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعضَ أصحابِهِ، ورقاه جبريل -عليه الصلاة والسلام-؛ فالتداوي لا بأسَ به، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوُوا، وَلَا تداوَوْا بحرامٍ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره).
فالتداوي أمرٌ مشروع لا بأسَ به ولا ينافي التوكلَ، فالتوكل يشمل الأمرين: الاعتماد على الله والتفويض إليه، مع تعاطي الأسباب، ولا يجوز للإنسان أن يقول: أنا أتوكل ولا آكل ولا أشرب ولا أتسبّب ولا أبيع ولا أشتري ولا أتعاطى زراعة ولا صناعة ولا غيره.. لا هذا غلط، فتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل، بل هو من التوكل وهكذا التداوي من التوكل.
ولهذا أرشد النَبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى التداوي، وَلمَّا سُئِلَ عن الرُقَى والأدويَةِ فَقَالَ: "هي مِنْ قَدَر الله"، وقال عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما أتى الشام وبلغه حصولَ الوباءِ في الشام الطاعون انصرف بالناس ورجع بهم، وقال: "نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ"(رواه البخاري مسلم). ثم أبلغه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ"(رواه البخاري ومسلم). فَسُرَّ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بذلك؛ حيث وافق السنة ثُمَّ انْصَرَفَ.
فالمقصود أن التداوي -مما حلَّ بالإنسان من مرض- أمرٌ مشروعٌ على الصحيح، وهو قول أكثر أهل العلم، ومَن تركه فلا حرجَ عليه، وإذا ظنَّ نَفْعه واشتدَّت الحاجة إليه تأكَّد؛ لأن تركه يَضُرُّ فيُتعبُ نفسه ويُتعبُ أهلَهُ ويُتعِبُ خدمه، فالتداوي فيه مصالح لنفسه ولأهله، والتداوي كذلك يُعينه على أسباب الشفاء، ويعينه على طاعة الله حتى يصلي في المسجد، وحتى يقومَ بأمورٍ تنفعُ الناس وتنفعه". انتهى كلامه -رحمه الله-.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: اتَّقُوا اللهَ -تعالى-، واسمعوا وأطيعوا تفلحوا.
أما القسم الثاني من التداوي فهو التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم أو أخذ اللقاح، والغالب أن يكون هذا في الأمراض المعدية أو الشديدة المهلكة.. وقد سُئِلَ عنه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله عنه- فقال: "لا بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يُخْشَى منه؛ لِقَولِ النَبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديثِ الصحيح: "مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ"(رواه مسلم عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه.
فهكذا إذا خشي من مرض وطُعِّمَ ضد الوباء الواقع في البلد أو في أيّ مكان؛ لا بأس بذلك من باب الدفاع، كما يُعَالَجُ المرضُ النازلُ يُعَالَجُ بالدواءِ، وكذلك المرضُ الذي يُخْشَى منه، لكن لا يجوز تعليق التمائم والحُجُبِ ضد المرض أو الجنّ أو العين؛ لنهي النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. وقد أوضح -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك من الشرك الأصغر؛ فالواجب الحذر من ذلك" انتهى كلام الشيخ -رحمه الله-.
أيها الإخوة: منذ وقوع جائحة كورونا والدولة -وفَّقها الله- تتخذ كلَّ التدابير العلاجية والوقائية للمواطنين والمقيمين، لا تُفرّق بين أحد منهم؛ فالكل يحظى بالعناية، وعند الحاجة بالرعاية، ولم تبخل لمكافحة هذا البلاء بمال.. ولستُ بصدد سرد ذلك في مثل هذا الموقف، لكن المأمول منا مواطنين ومقيمين ما يلي: الاهتمام بتطبيق الاحترازات الوقائية وعدم تركها إلا بعد الإعلان عن ارتفاع الجائحة، وهذا واجب شرعي قد بُيِّنَ للجميع كثيراً.
وعلمتم اليوم بتفاصيل حكم التداوي بعد وقوع المرض والتحصن منه قبل وقوعه.. وكما أنه يجب علينا أخذ الفتوى من أهل العلم الشرعي؛ يجب علينا أخذ المعلومات من أهل الاختصاص بالطب والعلاج من أهله المتخصصين، وأهم الجهات المعنية بذلك في بلادنا وزارة الصحة وهيئة الغذاء والدواء، وقد صرحوا بسلامة اللقاح ومأمونيته، وأنفقت الدولة على شرائه مئات الملايين.
أما ما نسمعه من هنا وهناك وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ممن يُذكر بأنهم متخصّصون ونحن لا نعرفهم أو نعرفهم ولا نعرف دواخلهم؛ فالواجب علينا الحذر، ولا نصدق مجهول الحال، وندع مَن ولاهم الله أمرنا في جانب الصحة..
حمى الله بلادنا وبلاد المسلمين وعموم العالم من كل وباء، ودفعه عن الجميع.. وشفى كل مريض؛ إنه جواد كريم.
وصلوا وسلموا على نبيكم تفلحوا..