الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | جابر السيد الحناوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
وحديثنا اليوم وإن كان موجها إلينا جميعًا، إلا أنه إلى من رزقه الله حج بيته هذا العام أخص، فقد وعدك الله بأن يغفر لك جميع ذنوبك، ويطهرك من جميع معاصيك، وأنت اليوم نقي طاهر، تشبه المولود حديث الولادة، الذي يأتي إلى هذه الحياة، نقي الصفحة، طاهر السريرة، وقد شهد لك بهذا الصفاء خاتم المرسلين -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" ..
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لا يَضُرُّ إِلاَّ نَفْسَهُ وَلا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70].
أما بعد: وآذن شهر ذي الحجة بالرحيل، ورجع الكثير من الحجاج إلى الديار، وقد منَّ الله عليهم بفضله وكرمه، حيث وفقهم إلى أداء الركن الخامس من أركان الإسلام.
وحديثنا اليوم وإن كان موجها إلينا جميعًا، إلا أنه إلى من رزقه الله حج بيته هذا العام أخص، فقد وعدك الله بأن يغفر لك جميع ذنوبك، ويطهرك من جميع معاصيك، وأنت اليوم نقي طاهر، تشبه المولود حديث الولادة، الذي يأتي إلى هذه الحياة، نقي الصفحة، طاهر السريرة، وقد شهد لك بهذا الصفاء خاتم المرسلين -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
وما دمت قد فضلت بهذا الفضل الإلهي على كثير من العباد، فكيف تقضي بقية حياتك؟! وأي منهج تنتهجه بعد أداء هذا النسك؟! وهل تختلف حياتك قبل الحج عما بعده؟!
هذا هو موضوعنا اليوم، نتجاذب فيه معًا أطراف الحديث، في صورة أسس ومبادئ نمتثل لها جميعًا، ونقوِّم عوج الحياة في ضوئها، بتوفيق الله -عز وجل-، وكما قلت فإن هذه الأسس لا يطالب بها الحاج وحده، بل كلنا مطالبون بها، من حج ومن لم يحج، ولكن الحاج أولى من غيره بالتمسك بها، بعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فلا أقل من أن يتمسك بها شكرًا لنعمة الله عليه.
الأساس الأول: صحة العقيدة.
الأساس الثاني: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- رسول من عند الله -عز وجل- يجب اتباعه.
الأساس الثالث: إثبات البعث والجزاء.
أما عن الأساس الأول وهو صحة العقيدة؛ فإن المتتبع للقرآن الكريم -لا سيما في سوره المكية- يجده يركز على الحديث عن وحدانية الله، وأنه هو القادر المطلق، وأنه هو العليم الخبير، المدبر المهيمن، وأنه هو الخالق وغيره مخلوق، ونجد القرآن يعرض هذه العقيدة بشتى الأساليب:
ففي بعض الآيات يعرضها بمخاطبة العقل والتفكير، كما في قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [يونس: 34]، أي كيف تصرفون عن عبادته، مع قيام الدليل على أنه خالقكم؟!
ثم يستطرد -عز وجل- في مخاطبة العقل فيقول: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) [يونس: 35]، بمعنى لا يهتدي إلا أن يهديه غيره إلى الطريق، ثم يختتم هذه المحاورة العقلية بقوله -سبحانه وتعالى-: (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: 35].
وفي مواضع أخرى يعرض القرآن الكريم عقيدة التوحيد، بمخاطبة الشعور الإنساني، بذكر المنن الإلهية على الإنسان، كما في قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [يونس: 31].
وفي آيات أخرى يذكِّر القرآنُ الكريم الإنسان بأن كل ما في الكون أوجده الله من أجل خدمته، وأنك -أيها الإنسان- ما خلقت إلا لعبادة الله وحده، فعليك إذن أن لا تشرك به شيئًا، كما في قوله -عز وجل-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 29].
وفي سورة الذاريات يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
فأساس عقيدة المسلم وحدانية الله، والذي يناقض هذا الأساس، ولا يغفره الله -عز وجل- إن مات الإنسان عليه، هو الشرك بالله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48].
فما هو هذا الشرك؟! أول ما يتبادر إلى الأذهان أن الشرك بالله هو عبادة الأوثان، أو عبادة قبور الصالحين، والحقيقة أن الشرك -نعوذ بالله منه ما خفي منه وما ظهر- مفهوم إسلامي أوسع من ذلك بكثير، فإنه وإن كان شركُ مُعْظَمِ من عاصر نزول القرآن منحصرًا في عبادة الأحجار، ظنًا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، فإن شركَ أجيالنا أكثر تنوعًا وأعم صورًا، والعياذ بالله، فإن كلَّ ما خضعتَ له، أو ذللت نفسـَك من أجله، أو قبلت تحليله وتحريمه المناقضَ لشرع الله، أو أخرت تنفيذ أمر الله طلبًا لمرضاته، فقد اتخذته شريكًا مع الله، وعليه فقد يكون هذا الشريك قانونًا وضعيًا، أو حزبًا سياسيًا، أو زعيمًا من الزعماء، أو جماعة من الجماعات، أو عملة من العملات المالية.
روى الإمام الطبري في تفسيره عند قوله -سبحانه وتعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31]، روى عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: أتيت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ: اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، قال عدي قلت: يا رسول الله: إنا لسنا نعبدُهم! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟، قال عدي: قلت: بلى! قال -صلى الله عليه وسلم-: "فتلك عبادتهم!".
ومثل هذا قاله حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرُهما في تفسير: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ): إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدي: "استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم".
ولهذا قال -عز وجل-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) أي: الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرَّعه اتُّبِع، وما حكم به نُفِّذ، (لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ونظير ذلك قولهم: فلان يعبد فلانًا إذا أفرط في طاعته، فهو استعارة بتشبيه الطاعة بالعبادة، والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله -سبحانه وتعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده.
ومما يندى له الجبين أننا في أيامنا هذه قد وقعنا في نفس المحظور، وصدق علينا قول الإمام السدي: "استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم". فاستنصحوا من يسمونهم رجال الفكر والمفكرين، رجال التنوير، والعلمانيين، وخريجي نوادي الروتاري المشبوهة، واتخذنا منهم وزراء ومستشارين، وتركنا شرع الله، فكانت النتيجة الحتمية لذلك تلك الهزائم المتلاحقة للعرب أمام اليهود، واستيلاء الصهاينة على أرض فلسطين، وأجزاء من أراضى الدول المجاورة، كل هذا بسبب تغييب العقيدة الإسلامية الحقة عن المعركة.
هذا هو الأساس الأول الذي أوصي نفسي وإياكم بأن نضعه نصب أعيننا، ونعض عليه بالنواجذ، ألا وهو وحدانية الله -عز وجل- بمعناها الشامل، فأنا لا أقف عند العقيدة في جانب من جوانب التوحيد، وإنما أعني التوحيد بشموله: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات... إلخ ما تتحقق به العقيدة بشمولها وكمالها، حتى تتحول هذه العقيدة في حياتنا إلى واقع عملي وإلى منهج حياة.
يجب أن تكون العقيدة هي محور حياتنا كلها، خاصة في صراعنا الأبدي مع اليهود، يظن الكثيرون أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع أرض وحدود، والواقع أنه صراع عقيدة ووجود، صرح بذلك صراحة بن جوريون أول رئيس وزراء لهم، عقب الإعلان عن قيام دولتهم في هيئة الأمم المتحدة، قال: من الممكن أن لا يكون لنا حق في فلسطين من وجهة نظر السياسة والقانون، ولكن حقنا في فلسطين من منطلق ومنظور ديني، فأرض فلسطين هي أرض الميعاد التي وعدنا الله، وأعطانا إياها من النيل إلى الفرات... ثم قال: إنه لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل -هكذا زعموا-، ولا معنى لإسرائيل بدون فلسطين. ولم يكتف بن جوريون بهذا الكلام، وإنما أضاف كلامًا في منتهى الخطورة، قال: إنه يجب الآن على كل يهودي أن يهاجر إلى إسرائيل، وكل يهودي لا يهاجر إلى إسرائيل بعد قيام الدولة، فهو كافر بالتوراة، بل هو يكفر في كل يوم بالدين اليهودي.
وقد أصّل ناتنياهو هذه العقيدة في أول تعليق له بعد فوزه في الانتخابات، حين قال بالحرف الواحد: "لقد صوت اليهود أخيرًا للتوراة...". هذا كلام عقدي، حرب عقائدية بيننا وبينهم.
كما نرى فإن إخوان القردة والخنازير لا حق لهم بتاتًا في فلسطين، باعترافهم أنفسِهِم، يقول عنهم القرآن الكريم: إنهم قوم نقضوا العهود مع الله، ومع الأنبياء، وحرفوا كلام الله، فهل ينتظر أن يفي هؤلاء المجرمين مع القادة والزعماء؟! هذا أمر مستحيل؛ لأنهم يحاربون عن عقيدة.
ولهذا اختاروا رغمًا عنا أن تكون سفارتهم في الجيزة لا في القاهرة، على الضفة الغربية للنيل؛ لأن أساطيرهم الفاجرة تقول لهم: إن أرضهم من النيل إلى الفرات، فكيف تكون لهم سفارة في القاهرة والقاهرة أرضهم؟! واختاروها –رغم دواعي الأمن– أمام أضخم تجمع شبابي في الوطن، أمام جامعة القاهرة، كي يروّضوا أبناءنا على رؤية العلم الإسرائيلي، كما يروّض العبيد.
دنس لا يمحو عاره وذنبه عنا إلا أن نموت شهداء ونحن نزيله، نموت شهداء، مدركين أن استشهادنا ذاك لا يمنحنا الحسنات، بل يمحو عنا بعض السيئات، أقصى آمالنا بالاستشهاد أن يعفوَ الله عنا، وأن لا يسألنا يوم القيامة: لماذا انتظرنا كل هذا الانتظار قبل أن نستشهد؟!
ونحن في حربنا معهم يجب أن يكون عندنا اعتقاد، مثلما عندهم اعتقاد، بل نحن أولى منهم بذلك ؛ فهم يحاربوننا من منطلق عقيدة فاسدة، أما نحن فعقيدتنا غراء لا لبس فيها ولا تزوير، هي المحجة البيضاء ليلُها كنهارِها، وأقسم لكم على أنه من المستحيل لو استمرت الأمة مليون سنة على حالها الآن، من المستحيل أن تصل الأمة إلى القدس، إلا عن طريق العقيدة، إلا أن يشاء الله شيئًا آخر.
فالاعتقاد هو الأصل، وأمة لا تعرف عن عقيدتها الحقة شيئًا فمن المستحيل أن تنتصر، وكما قلت فلا يجب أن تفهم العقيدة على أنها شرك القبور فقط، أو شرك الحاكمية فقط، بل العقيدة منهج كامل متكامل يجب أن ينسحب على واقع حياتنا كلها، ليشملها من الألف إلى الياء.
أما أن تكون الأمة بعيدة عن هذا المعتقد، أمة تتحدى ربها، فمن المستحيل أن تنتصر أو أن يمكَّن لها في الأرض ولو مكثت مليون سنة في المؤتمرات والمحادثات والاجتماعات، بل ستظل تُضرب على أم رأسها بالنعال، حتى تعود إلى ربها الكبير المتعال، حتى تعرف معنى العقيدة الحقة، وتحول هذه العقيدة في حياتها إلى واقع عملي وإلى منهج حياة.
الأساس الثاني: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- رسول من عند الله -سبحانه وتعالى- يجب اتباعه؛ فإن استقر في قلبك الأساس الأول، وهو عقيدة الوحدانية، وأصبحت هي المحرك الأساسي لك، تجد نفسك تنقاد للأساس الثاني طوعًا واختيارًا، فتتبع ما أنزل الله -عز وجل- على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأمور العقائدية، والأحكام العملية التي أنزلها العليمُ بمصالحك، والخبير بما ينفعك أو يضرك: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
فَلتُلْبِس حياتك العملية لباس شرع الله، فتحب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أكثر من حب كل الناس، بما في ذلك نفسك وولدك ووالدك، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".
وطريقة حب الرسول: طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، فلا تعصي له أمرًا، ولا ترتكب له نهيًا، ولهذا يقول الله -عز وجل-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا -أي ضيقًا وشكًا- مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا -ينقادوا لحكمك- تَسْلِيمًا) من غير معارضة [النساء: 65].
لماذا يا رب؟! لأنه -صلى الله عليه وسلم- كما وصفه الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4]، لا شيء من عندياته -صلى الله عليه وسلم-، بل كله وحي من عند الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]، (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ...) [النساء: 59]، فجعل طاعته -سبحانه وتعالى- وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سواءً بسواء، والاثنان من علامات الإيمان: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80].
الأساس الثالث: الأساس الذي يجب أن تسير عليه حياتنا هو إثبات البعث والجزاء؛ فإذا عرفت وأدركت أن أعمالك تحصى عليك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وأن الملائكة تكتب كل صغيرة وكبيرة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، وأن حصاد حياتك كلِّها سيخرج في صورة كتاب منشور في ذلك اليوم العظيم: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء: 13].
إذا وقرت هذه الحقيقة في قلبك تجد نفسك تُقْدِمُ على أعمال كنت تُحجم عنها، وتهرب من أعمال كنت ترتكبها دون وازع، كل ذلك التغير طلبًا لمرضاة الله -عز وجل-، وخوفًا من ناره الموقدة التي وقودها الناس والحجارة، فتخاف من ذلك اليوم الذي قال الله -عز وجل- عنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2].
إذا استقر الخوف من ذلك اليوم في قلبك، عندها لن تقدم على عمل إلا بعد التفكير في عاقبته، هل هو مقرِّب إلى الجنة أم إلى النار والعياذ بالله.
الشاهد: أن الاعتقاد هو الأصل، ولا يمكن لأمة بعيدة عن ربها أن يمكَّن لها في الأرض أو أن تنتصر.
وها نحن نرى اليهود الآن يحترمون عقيدتهم رغم أنها عقيدة خبيثة فاسدة، ولكنهم يبذلون لها كل شيء، وقد رأينا ناتنياهو يتكلم بكل عزة وقوة قائلاً: "ولقد صوت اليهود أخيرًا للتوراة". هذا كلام عقيدة، عنده عقيدة.
أما نحن -سبحان الله- لم يعد إلا مجتمع الصحابة يُتناول على صفحات الجرائد القذرة الداعرة، يصوَّر للمسلمين على أنه مجتمع جنسي، ويتهم الصحابة في كتب الشيعة النجسة بأبشع التهم، بل ويمكَّن للشيعة الأنجاس من نشر سمومهم عبر الصحافة والتليفزيون الحكومي الذي يصرف عليه من دم الشعب.
أمة لا تعرف لها أصلاً، بل تحارب هذا الأصل، سبحان الله، من الذي أوصل القرآن والحديث لهذه الأمة؟! تشكيك الأمة في الصحابة الهدف منه تشكيك الأمة في القرآن والحديث؛ لأن الذين أوصلوا لنا هذا الدين هم الصحابة، يقول ابْنِ مَسْعُودٍ في حقهم: "إِنَّ اللَّهَ -سبحانه وتعالى- نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ...".
فإذا شككنا في الصحابة، في الأصل، ضعنا وضاع كل شيء، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنسى فضائلها؟! افتحوا أعينكم؛ لكي تروا كيف نُضْرب في مقتل!!
فالأصل هو الاعتقاد، وأمة غائبة عن العقيدة لن يمكَّن لها أبدًا بنص القرآن الكريم: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور: 55]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا)، ثم (عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، هذه هي أمة التمكين والخلافة في الأرض، أمة عقيدة وأمة إيمان، أما أمة تتحدى ربها، وتهجر عقيدتها فلا يمكن أن يُمَكَّن لها أبدًا، وسنظل مليون سنة، خطب رنانة، وحماس فوار، وجموع تسمع وتنفض، وتسمع وتنفض، ولن نغير من الواقع شيئًا.
المطلوب أن نحمل هم هذا الدين، ونخرج من الخطبة، ولا نكون سلبيين، ومش كل واحد يسمع ويرَوَّح وخلاص، كأنه سمع قصة أبي زيد الهلالي، وكأن الأمر لا يعنيه، لا بل تخرج وقلبك يحترق، تصرف حسب قدراتك، لا تسألني ماذا أعمل؟! أنت في مكان تستطيع أن تخدم فيه دين الله، كيف؟! اسأل نفسك ماذا تفعل؟! أنت أدرى بقدراتك.
الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه- لما أسلم، قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا نبي الله: إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، لم يطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا الإذن في أن يبعثه داعية إلى قومه، إن الإنسان حين يقرأ في كتب السيرة يكاد عقله يطيش، هذه القلوب هي التي تحملت مسؤولية هذا الدين، هذه القلوب هي التي احترقت على الدين، هذه القلوب هي التي أقامت للإسلام دولة وسط صحراء تموج بالكفر موجًا.
أما نحن، فالمصيبة أنه لا أحد منا يريد أن يتحرك، المصيبة أن أهل الحق ليس فيهم واحد يريد أن يتحرك إلا من رحم ربي، وقليل ما هم، نسأل الله أن نكون ممن رحم الله.
لابد أن نتحرك للدعوة والدين، وتكون فينا حرارة وحركة للدين، احمل هم الدين، لا تسألني ماذا تفعل؟! أنت أدرى بقدراتك، المهم أن تنام وتفكر وقلبك محروق، وأنت مهموم، قم الليل، صلِّ ركعتين لله، تضرع لله، ابكِ، استخر الله، واسأله ماذا أعمل؟! ولابد أن يهديك؛ لأنه -عز وجل- هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.