الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | د عبدالحميد بن سعد السعودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
تأمَّلُوا ما في هذه القصة العظيمة من العِبَر والآيات، كيف كان فرعون يقتِّل أبناءَ بني إسرائيل خوفًا من موسى، فتربَّى موسى في بيته، وفي حجر امرأته، وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مُصرِّحًا مُعلِنًا بالحق، هاتِفًا به، ألَا إن ربَّكم هو اللهُ ربُّ العالَمينَ...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة في الله: اتقوا ربَّكم، وتعرَّفوا عليه في حال الرخاء؛ يعرِفْكُم في حال الشدة، تعرَّفوا إلى ربكم بالخضوع له، والمحبة والتعظيم؛ ابتغاءَ مرضاته وتجنُّبًا لمعاصيه، خوفًا من عقابه الأليم، تعرَّفوا إلى الله بفعل الطاعات ما دمتُم في زمن القدرة والإمكان، قبل أن تتمنَّوُا العملَ فلا تستطيعوا إليه سبيلًا.
يقول ربُّنا -تبارك وتعالى- في محكم التنزيل: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 61].
أيها الإخوة في الله: فمن اتقى الله -تعالى-، ومن امتثل أمرَه واجتنَب نهيَه؛ نجَّاه الله بمفازته إذا وقَع في هلكة.
هذا سيِّد المتقينَ -صلى الله عليه وسلم- حين خرَج من مكة ومعه صاحبه أبو بكر، ووقفت قريش على رؤوسهم، وقال أبو بكر: يا رسول الله: لو نظَر أحدُهم إلى قدمه لَأبصَرَنا، فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزَنْ إنَّ اللهَ معنا، ما ظنُّكَ يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"؛ فنَّجى اللهُ -تعالى- نبيَّه -عليه الصلاة والسلام- بمفازته من غير أن يمسه سوء.
وهذا نبي الله يونس -عليه الصلاة والسلام- حين ذهب عن قومه مغاضِبًا لهم لَمَّا عصَوْه، فركب البحر، فثقلت بهم السفينة؛ فاقترع أهلُها أيهم يُلقى في البحر لتخفَّ السفينة، وينجو بعضُ مَنْ فيها، ولا يهلكوا كلهم، فوقعت القرعةُ على قوم فيهم نبيُّ الله يونس -عليه الصلاة والسلام-، فألقُوا في البحر؛ فالتقَم الحوتُ يونسَ (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87]؛ فاستجاب له ربُّ العالمينَ، فأنجاه من الغمِّ؛ (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصافات: 143-144].
أيها الإخوة في الله: إن نصر الله لأوليائه في كل مكان وزمان هو نصر للحق، وذلة للباطل، وأخذٌ للمتكبِّر، ونعمة على المؤمنين إلى قيام الساعة (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غافر: 51، 52].
وإن من نصر الله لرسله، نصره لموسى -عليه الصلاة والسلام- ومَنْ آمَنَ معَه من قومه على فرعون وجنوده، فلقد أرسَل اللهُ موسى -عليه الصلاة والسلام- إلى فرعون بالآيات البيِّنات، والبرهان القاطع على نبوته، فتكبَّر فرعون وقال: أنا ربكم العلى، وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38]، جاءه موسى بالآيات العظيمة، ودعاه إلى توحيد الله -تعالى-، خالق السماوات والأرض، رب العالمين، فقال فرعون منكرًا: (أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى) [طه: 57]؛ وذلك أن فرعون (عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ)[القصص: 4]، وهم شعب بني إسرائيل، الذين هم سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل الأرض، وقد تسلط عليهم هذا الظالم الغاشم الكافر، يستعبدهم ويستعملهم في أخسِّ الصنائع، ولَمَّا بلَغَه أنه سيخرج من بني إسرائيل غلامٌ يكون هلاكُه على يديه؛ أمَر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل، حَذَرًا من وجود هذا الغلام، ولن يُغنِي حذَرٌ من قَدَرٍ.
ولد موسى -عليه الصلاة والسلام- وضاقت به أمه ذرعًا، وخافت عليه وأشفقت، عند ذلك ألهمها الله أن تتخذ تابوتًا -والتابوت هو الصندوق-، فوضعت موسى فيه، وألقت التابوتَ في نهر النيل، فحمَلَه الماءُ حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا التابوت ووجدوا فيه ذلك الغلامَ، وقَع نظرُ امرأة فرعون عليه، فأحبَّتْه حُبًّا شديدًا، فلما جاء فرعون طلبت منه ألَّا يقتلَه، وقالت: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ)[القصص: 9]؛ فأنالها الله ما رجت منه من النفع، فهداها بسببه وأسكنها جنته، ولَمَّا استقرَّ الغلامُ في بيت فرعون، أرادوا أن يغذُّوه بالرضاع واجتهدوا في تغذيته، فلم يقبل ثديًا، فحاروا في أمره، فأرسلوه لعلهم يجدون من المراضع مَنْ يقبل ثديَها، فرأته أخته فعرفته، ولم تُظهِرْ أنها تعرِفُه، بل قالت: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)[القصص: 12]، ففرحوا بذلك، وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه، فالتقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه، وكان ذلك بتقدير من الله وعنايته (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)[القصص: 14].
وكَبِرَ موسى وترعرع في بيت فرعون، يركب مثل ما يركب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)[القصص: 14-15]، ونَدِمَ موسى على ذلك، وسأل ربَّه المغفرةَ؛ فغَفَر له، ثم فرَّ هاربًا فتوجَّه إلى أرض مدين، وتزوَّج هناك، ومكَث ثماني أو عشر سنين يرعى الغنم، ثم رجَع بزوجته يريد أرض مصر، وفي الطريق أكرَمَه اللهُ برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وخاطَبَه بكلامه العظيم، وأرسله إلى فرعون بالآيات والسلطان المبين، أرسله إلى فرعون الذي طغى وتكبر، فكان أول ما دعاه إلى توحيد الله، خالق السماوات والأرض، رب العالمين، فقال فرعون منكرًا ومكابرًا: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الشعراء: 23]، فأجابه موسى بأنه: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)[الشعراء: 24]، فقال فرعون لمن حوله ساخرًا بموسى، مستهزِئًا به، محتقِرًا له: (أَلَا تَسْتَمِعُونَ)[الشعراء: 25]، فذكَّره موسى بأصله، وأنه مخلوق من العدم، وصائر إلى العدم، شأنه شأن مَنْ سبَقَه مِنْ آبائه، فقال موسى: (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)[الشعراء: 26]، وحينئذ بُهِتَ فرعونُ، وانقطعت حجتُه، فلجأ إلى الطعن في الرسول واتهامه بالجنون، فقال: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)[الشعراء: 27]، فردَّ عليه موسى -عليه الصلاة والسلام- ردَّ العاقل الذي يُقِرُّ بالربوبية، فقال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[الشعراء: 28]، فلما عجَز فرعونُ عن مقاوَمة الحق لجأ إلى الإرهاب والوعيد شأنه في ذلك شأن العاجزين المتكبرين حينما يعجزون عن مقاوَمة الحق وإقناع الناس، يلجؤون إلى التهديد والوعيد بالاعتقال والقتل والسجن، فقال فرعون: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 29].
ولَمَّا تمادَوْا في كفرهم وطغيانهم أوحى الله -تعالى- إلى موسى أن يَخرج بالمسلمين من أرض مصر، فساروا قاصدين بلاد الشام، فلمَّا عَلِمَ فرعونُ بذهابهم غَضِبَ لذلك غضبًا شديدًا، واهتمَّ له اهتمامًا عظيمًا، فجمع جيشه وجنوده للَّحَاق بهم (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ)[الشعراء: 53-55]، فأخرجهم الله (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) [الدُّخَانِ: 25-27]؛ ليجعلها اللهُ لموسى وقومِه مِنْ بعدِهم.
وتراءى الجمعان، ولم تبقَ إلا المواجهة والقتال، فعند ذلك قال أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشُّعَرَاءِ: 61]؛ البحر مِنْ أمامنا، فإن خضناه غرقنا، وفرعون وقومه خلفَنا، فإن وقفنا أدرَكَنا، فقال لهم موسى -عليه الصلاة والسلام-: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62]، وتقدَّم موسى -عليه السلام- إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه؛ فأمَر الله موسى أن يضرب بعصاه، فلما ضربه انفلق البحر اثني عشر طريقًا يابسًا، وصار الماء السيال بين هذه الطرق، كأطواد الجبال، فانحدر فيه موسى وقومه مُسرِعينَ مُستبشِرينَ مُبادِرينَ، ودخَل فرعونُ وجنودُه في إثرهم، فلمَّا تكامَل موسى وقومه خارجينَ، وتكامَل فرعونُ وجنودُه داخلينَ أمَر اللهُ البحرَ أن يعود إلى حاله، فانطبَق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرَقِينَ، فلمَّا أدرَك فرعونَ الغرقُ (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 90]، ولكن الإيمان لا ينفع حينئذ، فقيل له توبيخًا: (آلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون)[يونس: 91-92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، مَنِ اعتَصَم بحبله وفَّقَه وهداه، ومن اعتمد عليه حَفِظَه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: تأمَّلُوا ما في هذه القصة العظيمة من العِبَر والآيات، كيف كان فرعون يقتِّل أبناءَ بني إسرائيل خوفًا من موسى، فتربَّى موسى في بيته، وفي حجر امرأته، وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مصرحًا معلنًا بالحق، هاتفًا به، ألا إن ربكم هو الله رب العالمين، فأنجاه الله منه، وكيف كان الماء السيَّال شيئًا جامدًا كالجبال، وكان الطريق يبسًا لا وحلَ فيه في الحال، وكيف أهلَك اللهُ هذا الجبار العنيد بمثل ما كان يفتخر به، فقد كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته، فأجراها اللهُ من فوقه، إلى غير ذلك من العبر لمن تأمل هذه القصة.
أيها الإخوة في الله: إن نجاة نبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام- وقومه من عدو الله فرعون وجنوده لَنعمة كبرى تستوجب الشكر لله -عز وجل-، ولهذا لَمَّا قَدِمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر، شهر الله المحرم، فقال: "ما هذا؟" قالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى وقومه من عدوهم، فصامه موسى -عليه الصلاة والسلام- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أحقُّ بموسى منكم" فصامَه وأمَر بصيامه، وسئل عن فضل صيامه، فقال: "أحتسب على الله أن يكفر السَّنةَ التي قبلَه".
وحيث إن هلال محرَّم لم تثبت رؤيتُه هذا العامَ، فيكمَل شهر ذي الحجة ثلاثين يومًا، ويكون الصيام في هذا العام، هذا اليوم يوم الجمعة، وهو اليوم التاسع، وغدًا السبت هو يوم عاشوراء.
ولتعلموا -أيها الإخوة- أن صيام يوم عاشوراء مقصود بذاته، أما صيام يوم قبله أو يوم بعده فهو مقصود لأجل مخالفة اليهود؛ ومِنْ ثَمَّ فمَنْ رَغِبَ في إدراك هذا الفضل العظيم، وثواب صيام يوم عاشوراء، وهو ثواب جزيل، فليصمه يوم غد وهو يوم السبت، فإن كان قد نوى الصيام اليوم، فقد صام يومًا قبلَه، وإلا فَلْيَصُمْ يومَ السبتِ ويومَ الأحدِ.
وفَّق اللهُ الجميعَ لِمَا يحبه ويرضاه.