البحث

عبارات مقترحة:

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ

العربية

المؤلف خالد بن عبدالرحمن الشايع
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. حث القرآن على التقوى .
  2. المقصود بالتقوى وحقيقتها .
  3. محاسبة النفس والاستعداد للآخرة .
  4. المقصود بقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) وبعض عقوبات نسيان العبد ربه .

اقتباس

نسيانهم هذا ليس من قبيل النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكنه نسيان التعمد، بمعنى أنهم أعرضوا وتنكَّبوا الصراط المستقيم عن عمد وقصد، وهذا حال المنافقين وأشباههم من اليهود والنصارى وأضرابهم، ولذلك فإن الله -جل وعلا- جازاهم على هذا النسيان الذي تعمَّدوه وقصدوه، وأهملوا معهم أوامر الله ونواهيه، وذلك ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فيا أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ في هذا القرآن العظيم من الخير والبر والهدى ما يغترف منه أهل الإيمان كلٌّ بحسب إقباله على هذا الكتاب العزيز، وتدبُّره لما حواه من الآيات البيِّنات والمواعظ الكريمات التي فيها الخير والهدى، وحسن العقبى في الآخرة والأولى.

ومن جملة ما جاء في هذا القرآن العظيم: موعظة الله -جل وعلا- لعباده، وتذكيرهم بما يجب عليهم من تقواه جل وعلا، التقوى التي فيها الخير والهدى، وفيها الوصول إلى جنة عرضها السموات والأرض، ولذلك كثيرًا ما يذكر الله -جل وعلا- في كتابه ما يتعلق بالتقوى، يذكرها آمرًا عباده بها، ومحذرًا لهم من مخالفة مقتضى التقوى، ويرغبهم جل وعلا في شأن التقوى مبينًا لهم حسن عاقبتها وبركاتها، وثمراتها التي ينالها عباده المتقون في هذه الحياة الدنيا؛ تقدمةً للأُعطيات الكبرى في الدار الآخرة.

ومن المواعظ التي اشتملت على الأمر بالتقوى: ما جاء في سورة الحشر من قول رب العزة –سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 18 - 19]، فهذا خطاب من الله -جل وعلا- خاطَب به عباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وإنما توجه لهم هذا الخطاب ونُودوا بوصف الإيمان؛ لأن أهل الإيمان هم الذين يتعظون بالمواعظ، ويتذكرون بالذكرى بخلاف أهل الزيغ والكفر والطغيان، فإنهم لا يَأْبهون بمواعظ الله، ولا بتذكيره جل وعلا لهم، ولذا قال سبحانه ها هنا مخاطبًا عباده بهذا الوصف العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يا من حزتم هذا الخير، فصدقتم وآمنتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيًّا.

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا سمعت الله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرْعِ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه"، "إذا سمعت الله يناديك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأَرْعِ لها سمعك" يعني: استمع لها استماع المهتم الذي يكون متهيئًا للعمل بمقتضى هذا النداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)، والتقوى التي أمر الله بها في هذا الموضع وغيره، هي كما قال العلماء: فعل الأوامر وترك النواهي.

ومن العلماء مَن يعرِّف ذلك فيقول: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره وترك نواهيه.

وهي أيضًا بمعنى آخر قال به بعض العلماء: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.

فكل مكان أو زمان أُمرت أن تكون فيه فكنت، فأنت تقي، وكل زمان أو مكان نُهيت أن تكون فيه، فانتهيت ولم تكن، فأنت تقي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).

ثم حثَّ الله -جل وعلا- على الغاية من التقوى والهدف المنشود الذي توصل له التقوى وهو ادِّكار وتذكُّر الحياة الآخرة: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، والمعنى أن يحاسب الإنسان نفسه وأن يَزنها قبل أن يوزن؛ كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".

فالحساب لا بد منه فإن الله -جل وعلا- لتمام عدله وحكمته جعل للعباد جميعًا يومًا يوقفون فيه، فينظر في أعمالهم، فيجزي الله الذين أحسنوا بالحسنى، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا؛ قال الله -جل وعلا-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].

فمن رأفته سبحانه بعباده أن حذَّرهم من عقوبته، ووعدهم إن هم أطاعوا بأفضل العطاء، وإن مما يعين على الاستعداد والمحاسبة أن يكون عند الإنسان ميزان التقوى التي تضبط حياته كلها، وتنقله من ضيق هذه الحياة إلى سعادتها وبهجتها تقدمةً للسعادة الكبرى، وما أحسن ما قال جرير في وصف التقوى:

ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ

ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ

فتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا  

وعندَ اللهِ للأَتْقى مَزيدُ

في هذه الدنيا تتنوَّع ملاذ الناس بكل مجالاتها وأنواعها من أموال وشهوات، ورُتب ومراتب وغير ذلك، لكنها كلها والله لا تساوي شيئًا في جانب منزلة التقوى التي من وصل إليها كان على منزلة عظيمة وقدر عظيم من السعادة، كيف لا وقد أصبح وليًّا من أولياء الله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[يونس: 62].

ثم تأمَّلوا -رحِمكم الله- أن الله -جل وعلا- قال في كتابه في هذه الآية: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)[الحشر: 18]، وهذا أسلوب بديع يُدركه علماء البلاغة وعلماء التفسير، فقوله جل وعلا هنا: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ)[الحشر: 18]، قال العلماء: هذه نكرة في سياق الأمر، فتفيد العموم، والمعنى أنه يجب على كل نفس أن تنظر في مرجعها ومعادها، فكل الأنفس مطلوب منها بل مأمورة أن تراجع وأن تحاسب؛ سواء كان الإنسان سابقًا للخيرات، أو كان مقصرًا في الطاعات؛ لأنه ما من ميِّت يموت إلا تمنَّى الرجعة للدنيا؛ إن كان محسنًا فيزداد، وإن كان مسيئًا فيستعتب ويتوب.

ثم إن الله -سبحانه وتعالى- وصف هذا اليوم، فقال: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) وصفه بأنه غد، وهذا يفيد شدة قربه وتحقُّق مجيئه، لكن ما كان في الغد فهو قريب جدًّا، ولذلك قال سبحانه في مواضع من كتابه العزيز: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)[القمر: 1]، مَن القائل؟ هو رب العزة أصدق القائلين -جل وعلا-، ومعنى ذلك أن قيام الساعة وقرب حلولها؛ كما قال سبحانه: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[النحل: 77].

وإذا كانت هذه الدنيا كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "بُعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى"، والمعنى أن ما مضى من الدنيا كقدر ما يُمثله الأصبع السبَّابة من الأصبع الوسطى، فإن الذي بقي هو يسير وقليل، ولذلك فإن العبد إذا تأمَّل مقولة النبي الكريم: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" وقد مضى ما يزيد على ألف وأربعمائة عام عليها، فإن الساعة هي كما قال الله -تعالى-: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) هذا بالنسبة للناس جميعًا، وأما بالنسبة لكل فرد، فإن من مات قامت قيامته، من دخل باب الموت وشرب من كأسه، فقد قامت قيامته، وابتدأ حسابه تمهيدًا للحساب الأكبر، ولذلك يسأل في قبره: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيُّك؟ هذه بداية الحساب، وهو أيضًا هذا الموضع وهذا البرزخ بداية للجزاء، فإن العبد في قبره؛ إما منعم على ما أحسن، وإما معاقب على ما أساء.

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) فهذا الحساب واجب على كل عبد، ذلك أن الإنسان إذا لم يحاسب نفسه تمادَى في الطغيان، واستمرَّ في العصيان، لكن مَن أدام محاسبة نفسه، كما يحاسب الشريك شريكَه في التجارة، فإنه سيعلم هل هو مقصِّر أم هو مزداد!

ومن أعظم ما يُعين الإنسان على المحاسبة: أنه إذا أراد أن يبيت عند نومه، ووضع رأسه على وساده، فليتأمل لو كانت هذه الليلة هي آخر ليلة له في حياته، فيا ترى هل سيكون حاله حال السادر الساهي الذي لا يهتم للأمر؟ كلا بل إن المومن ستحمله هذه المحاسبة على أن يعزم (إن استقبل يومًا جديدًا) على أن يصلح من حاله، ويسابق إلى الخير، ويعمل الخير، ويرد المظالم، ويتوب من السيئات، وإن كانت هي آخر ليلة في حياته، كانت على توبة وإنابة، وعلى عزم بفعل الخير.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18]، وتأمَّلوا كيف أن الله أعاد الأمر بالتقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18]، ومن أهل العلم من يقول: هي للتأكيد، ومنهم من يقول: إنها للتأسيس، بمعنى أنها أمر بنوع آخر من التقوى، فالأول: أمر بفعل الواجبات، والثاني: نهي عن السيئات والمنكرات، ومهما يكن من أمر، فإنه في هذا المقام جاء التأكيد على التقوى، كما تكرَّر تأكيدها في مواضع عديدة من هذا الكتاب العزيز، والله -جل وعلا- لا تَخفى عليه خافية: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[طه: 52]، فكل عامل محصى عليه ما عمل، وكل مقصر محصى عليه تقصيره، كل ذلك (عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[طه: 52].

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فهذا قول ربنا -سبحانه- موصيًا عباده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18]، ثم حذَّر الله -جل وعلا- من حال من خالفوا هذه الوصية، وارتكبوا ما نهى عنه، فقال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19] فيُحذر الله حال هؤلاء الذين نسوا الله، والمعنى: نسوا طاعته، ونسوا ما أمرهم جل وعلا به، ونسيانهم هذا ليس من قبيل النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكنه نسيان التعمد، بمعنى أنهم أعرضوا وتنكَّبوا الصراط المستقيم عن عمد وقصد، وهذا حال المنافقين وأشباههم من اليهود والنصارى وأضرابهم!

ولذلك فإن الله -جل وعلا- جازاهم على هذا النسيان الذي تعمَّدوه وقصدوه، وأهملوا معهم أوامر الله ونواهيه، وذلك أنه سبحانه جازاهم بجنس ما عملوا، وهو أنه سبحانه نسيهم: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[التوبة: 67]، والمعنى أنه عاملهم معاملة الناسي لهم؛ لأن الله -جل وعلا- كما وصف نفسه: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)[طه: 52]، لكنه عاملهم معاملة الناسي لهم الذي يكون معه حرمانهم من الخير، ومنعهم من التوفيق للهدى، ومنعهم من الرشد، ومن كل نعمة يُريدها الله بهم، وهذا من أعظم ما يكون من العقوبة للإنسان أنه يُجازى بأن يَنسى ما فيه الخير لنفسه، وأن يتجنَّب ما فيه حُسن العقبى له في الدنيا والآخرة، وهذه عقوبة عظيمة إذا بلَغت بالإنسان، فقد تُودِّعَ منه، وهذا يؤول بالإنسان إلى أن يكون مقتحمًا للسيئات؛ لأنه لو عظم شأنه أو علا قدره عند ربه، لحال الله بينه وبين المعاصي، ولكن الذي أهانه الله، فإنه لا يحول بينه وبين السيئات، بل إنه يقتحمها ولا يزال سادرًا في ضلاله وطغيانه، ولذا قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)[الحج: 18]، وإهانة هؤلاء بأن يَقترفوا السيئات، وألا يُوفَّقوا للتوبة منها.

ولذلك ما عُوقِب عبد بمثل أن يعاقب بألا يحال بينه وبين السيئات، فلا يزال مقتحمًا لها، مُصرًّا عليها، حتى يلقى الله -جل وعلا-؛ قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "قوله جل وعلا: (نَسُوا اللَّهَ) أي: نسوا ذكره سبحانه، فنَسِيهم؛ أي: عامَلهم معاملة مَن نسيهم؛ كما قال جل وعلا: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)[الجاثية: 34]، وكما قال جل وعلا: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ)[السجدة: 14]".

فهي عقوبة من الله -جل وعلا- من جنس ما كان منهم في الدنيا، لَما تَهاوَنوا بالأوامر وبالنواهي، وتعامَلوا معها تعاملًا خلاف ما أمر الله -جل وعلا-، فكانت العقوبة لهم في الدنيا على هذه الحال: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)[فصلت: 25]، وهم في الآخرة يبقون في العذاب لا يستجاب لتضرُّعهم، ولا يُجابون لنداءاتهم إلا إجابة التبكيت؛ كما قال الله -تعالى-: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[الزخرف: 77]، إلى غير ذلك من نداءاتهم وهم في النار، ولا يجابون على ذلك إلا بما فيه تبكيتهم؛ كما قال سبحانه: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 108] -عياذًا بالله من هذه الحال-.

وهؤلاء الذين نسوا الله هم كما قال الله -تعالى- في شأنهم، وهم المنافقون ومَن أشبههم، ومن تشبهوا به من قبلهم من اليهود والنصارى الذين تناسوا أوامر الله، وارتكبوا نواهيه، وهذا يوجب على المؤمن أن يحاذر من أن يصل إلى هذه النتيجة، وهي أن الله -سبحانه- ينسيه نفسه، فلا يعرف ما ينبغي من الهدى، وما ينبغي له من السعي بعمل الطاعات واجتناب السيئات؛ قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في شأن العقوبات التي تحل بالعبد بسبب إصراره على المعاصي: إن المعصية تنسي العبد نفسه، وإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها، فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسه؟ وإذا نسي نفسه فأي شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسه؟ قيل: نعم هو ينسى نفسه أعظم نسيان؛ قال الله -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19].

فلما نسوا ربهم -سبحانه- نسيهم وأنساهم أنفسهم؛ كما قال سبحانه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، فعاقب سبحانه وتعالى مَن نسيه عقوبتين:

إحداهما: أنه جل وعلا نسيه، والثانية: أنه أنساه نفسه، ونسيانه جل وعلا للعبد إهماله وتركه، وتخلِّيه عنه وإضاعته، فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم، وإما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها، وما يكون بسبب هذا النسيان من البلاء ما لا يخطر على البال.

أقول: لذلك يعجب المرء أن بعض الناس لا يزال مستمرًّا في معاصيه إلى آخر لحظة من حياته؛ حتى إن بعضهم يُذكَّر بالتوحيد والهداية في لحظات سكرات الموت، لكنه لا يستجيب، وهذا لأن الله نَسِيه -عياذًا بالله من كل ذلك-.

ثم إن من نسيان الله لهم: أنهم لا يزالون متعلقين بالدنيا، لا يلتفتون للآخرة، وهم مع ذلك في إذلال من الله -جل وعلا- ظاهر عليهم الذل؛ كما قال ربنا -سبحانه- في الآية الكريمة: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم)[الحج: 18].

قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- في شأن أهل المعاصي المُصرِّين عليها، المستعلنين بها: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البرادين، فإن ذل المعصية على وجوههم، أبى الله إلا أن يذل مَن عصاه"، والمعنى في كلامه -رحمه الله-: أن أهل العصيان الذين أصرُّوا على الذنوب، وجاهروا بها مهما علوا في الدنيا، فهملجت بهم البرادين؛ يعني: كانت لهم المركوبات وكانت لهم الشارات العالية، وكانت لهم المفاخر الدنيوية، ثم إنهم مع كل ما يملكون ومع كل ما يتظاهرون به من الزينة في اللباس والمراكب، وكثرة الأموال، فإن ذل المعصية لا يجاوز رقابهم، ولا يخفى عن وجوههم، لماذا؟ لأن الله -سبحانه- أبى إلا أن يذل من عصاه؛ كما دلت عليه الآية المتقدمة.

فحَرِيٌّ بالمؤمن -أيها الإخوة الكرام- أن يكون مستعدًّا لنقلته عن هذه الحياة الدنيا؛ بإعداد العدة بالعمل الصالح، والانتهاء عن السيئات، وأن يحاسب نفسه، فهذا خير زاد يقدم به على رب العباد.

ألا وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم وارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.

اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم انفع بهم العباد والبلاد، واجعلهم هداة مهتدين.

اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبْعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.

اللهم احفظ وأيِّد، وثبِّت أقدام إخواننا المرابطين على حدودنا وعلى ثغور بلادنا.

اللهم احفظهم بحفظك، اللهم سدِّد آراءهم ورَمْيهم يا رب العالمين.

اللهم واحقِن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم عجِّل بالفرج لإخواننا المكروبين في فلسطين وسوريا، وفي ليبيا ومصر وفي العراق، وفي غيرها من البلاد يا رب العالمين.

اللهم إن بأمة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام- من الفرقة والبأساء، والشدة واللأواء، وتسلُّط الأعداء ما لا يخفى عليك، ولا نشكوه إلا إليك، ولا يَقدِّر على كشفه إلا أنت، فنسألك اللهم يا ذا الجلال والإكرام فرجًا عاجلاً لإخواننا المكروبين، اللهم عجِّل لهم الفرجَ.

اللهم انصر مَن نصَر دينك، اللهم أذل مَن حارَب دينك، وحارَب عبادك المؤمنين يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.

سبحان ربنا ربِّ العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.