الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
مَا أَحْسَنَ أَنْ يَصِيرَ لَدَى الْمُجْتَمَعِ ثَقَافَةُ تَيْسِيرِ الزَّوَاجِ، وَتَخْفِيفِ الْمَؤُونَةِ عَلَى مُرِيدِيهِ، وَالْإِعَانَةِ لِمَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ؛ طَلَبًا لِلْعَفَافِ، وَتَكْوِينِ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَالِكَ بَيْنَ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ يُوجَدُ مَطْلَبٌ مِنْ أَهَمِّ مَطَالِبِهَا الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْحَيَاةُ النَّقِيَّةُ، وَتَسْتَقِرُّ فِيهِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ عَلَى أُفُقٍ مِنَ الطُّهْرِ وَالِاطْمِئْنَانِ، هَذَا الْمَطْلَبُ الْكَبِيرُ هُوَ الْعِفَّةُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا سُبُلًا صَالِحَةً تُحَقِّقُهَا، وَطُرُقًا آمِنَةً تُوصِلُ إِلَيْهَا؛ أَلَا وَإِنَّ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ تَيْسِيرَ الزَّوَاجِ وَتَخْفِيفَ مَؤُونَتِهِ.
إِنَّ الزَّوَاجَ هُوَ السَّبِيلُ الصَّحِيحُ إِلَى حُصُولِ الْعَفَافِ، وَتَلْبِيَةِ دَاعِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالَّذِي يَنْتِجُ عَنْهُ الْأُسْرَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ النَّظِيفَةُ، وَقَدْ حَثَّ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَدَعَا إِلَيْهِ رَسُولُنَا الْكَرِيمُ فِي سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ؛ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- آمِرًا بِالزَّوَاجِ وَمُبَيِّنًا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْغِنَى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النُّورِ:32].
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: "أَرْدَفَتْ أَوَامِرَ الْعَفَافِ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُعِينُ عَلَيْهِ، وَيُعِفُّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَيَغُضُّ مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فَأَمَرَ الْأَوْلِيَاءَ بِأَنْ يُزَوِّجُوا أَيَامَاهُمْ وَلَا يَتْرُكُوهُنَّ مُتَأَيِّمَاتٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَفُّ لَهُنَّ وَلِلرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَهُنَّ...".
وَيَقُولُ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَحَثَّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الزَّوَاجِ مُبَيِّنًا أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ سَادَاتُ النَّاسِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُسَارُ عَلَى دَرْبِهِمْ فَقَالَ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)[الرَّعْدِ: 38].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
وَلِكَوْنِ الْبُعْدِ عَنِ الزَّوَاجِ قَدْ يَخْدِشُ الْعَفَافَ، وَيَجْعَلُ الْفِطْرَةَ تَنْتَصِرُ عَلَى النَّفْسِ فَيَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي الْفَاحِشَةِ؛ جَاءَ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ -وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ النِّكَاحِ؛ تَفَرُّغًا لِلْعِبَادَةِ- فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
وَلِحِرْصِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ الْعَفَافُ؛ رَغَّبَتْ فِيهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ).
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: وَلَمَّا كَانَ الزَّوَاجُ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ وَهَذَا الْأَثَرِ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي تَيْسِيرُهُ وَعَدَمُ تَعْسِيرِهِ؛ حَتَّى يَكْثُرَ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَيَقْضِيَ عَلَى الْعُنُوسَةِ وَالْجَرِيمَةِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ؛ فَلِهَذَا جَاءَ فِي شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ الْحَثُّ عَلَى تَسْهِيلِهِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَعْسِيرِهِ.
فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ: تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ).
قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ فِي مَعْنَاهُ: أَيْ مِنْ بَرَكَتِهَا سُهُولَةُ سُؤَالِ الْخَاطِبِ أَوْلِيَاءَهَا نِكَاحَهَا وَإِجَابَتَهُمْ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَعَدَمُ التَّشْدِيدِ فِي تَكْثِيرِ صَدَاقِهَا وَوِجْدَانِهِ بِيَدِ الْخَاطِبِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ فِي تَحْصِيلِهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ سَرِيعَةَ الْحَمْلِ كَثِيرَةَ النَّسْلِ. قَالَ عُرْوَةُ: "وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَوَّلِ شُؤْمِهَا أَنْ يَكْثُرَ صَدَاقُهَا"(فَيْضُ الْقَدِيرِ).
وَمَنْ مِنَّا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ بِنْتُهُ أَوْ أُخْتُهُ ذَاتَ شُؤْمٍ، وَلَيْسَ فِيهَا بَرَكَةٌ؟!
وَاسْمَعُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- إِلَى بَيَانِ أَثَرِ تَيْسِيرِ الْمُهُورِ، وَالْبُعْدِ عَنْ كَثْرَةِ تَكَالِيفِ النِّكَاحِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ (الْبَيْهَقِيِّ وَالْحَاكِمِ): "خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ".
قَالَ الْمُنَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "النِّكَاحُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ جُمْلَةً، وَيَجِبُ فِي حَالَةٍ، فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِيهِ بِيُسْرٍ وَخِفَّةِ مَؤُونَةٍ؛ لِأَنَّهُ أُلْفَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَيُقْصَدُ مِنْهُ الْخِفَّةُ، فَإِذَا تَيَسَّرَ عَمَّتْ بَرَكَتُهُ، وَمِنْ يُسْرِهِ خِفَّةُ صَدَاقِهَا، وَتَرْكُ الْمُغَالَاةِ فِيهِ، وَكَذَا جَمِيعُ مُتَعَلِّقَاتِ النِّكَاحِ مِنْ وَلِيمَةٍ وَنَحْوِهَا"(فَيْضُ الْقَدِيرِ).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ التَّيْسِيرِ فِي النِّكَاحِ لَهُ آثَارٌ حَمِيدَةٌ، يَجِدُهَا الزَّوْجَانِ وَأُسْرَتَاهُمَا وَالْمُجْتَمَعُ بِأَسْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إِلَّا تَوْسِيعُ دَائِرَةِ الْعَفَافِ، وَالتَّضْيِيقُ عَلَى رُقْعَةِ الْفُحْشِ لَكَفَى.
يَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ: "إِنَّ أَعْظَمَ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَؤُونَةً"-: "فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ النِّكَاحِ مَعَ قِلَّةِ الْمَهْرِ، وَأَنَّ الزَّوَاجَ بِمَهْرٍ قَلِيلٍ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، لَمْ يَسْتَصْعِبِ النِّكَاحَ مَنْ يُرِيدُهُ، فَيَكْثُرُ الزَّوَاجُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ، وَيَكْثُرُ النَّسْلُ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ مَطَالَبِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْمَهْرُ كَثِيرًا، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إِلَّا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ، فَيَكُونُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ هُمُ الْأَكْثَرُ -فِي الْغَالِبِ- غَيْرَ مُزَوَّجِينَ، فَلَا تَحْصُلُ الْمُكَاثَرَةُ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: مَا أَحْسَنَ أَنْ يَصِيرَ لَدَى الْمُجْتَمَعِ ثَقَافَةُ تَيْسِيرِ الزَّوَاجِ، وَتَخْفِيفِ الْمَؤُونَةِ عَلَى مُرِيدِيهِ، وَالْإِعَانَةِ لِمَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ؛ طَلَبًا لِلْعَفَافِ، وَتَكْوِينِ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ، فَنَقُولُ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ: كُونُوا عَوْنًا لِإِحْصَانِ بَنَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ بِطَلَبِ الْمَهْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَسْتَطِيعُهُ الْخُطَّابُ، وَلَا تُشَدِّدُوا فِي طَلَبِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ الْخَاطِبُ أَوْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ إِيجَادُهُ.
وَاعْمَلُوا بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعُمَرِيَّةِ: فَعَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فَقَالَ: "أَلَا لَا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
وَأَقُولُ: وَلَوْلَا الْحَيَاءُ مِنَ النِّسَاءِ -وَفِي ظِلِّ ظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ الْيَوْمَ- لَطَالَبَتْ كُلُّ فَتَاةٍ وَلِيَّهَا أَنْ لَا يَرُدَّ خَاطِبًا بِسَبَبِ قِلَّةِ مَالِهِ، وَلَوَافَقَتْ عَلَى الزَّوَاجِ وَلَوْ قَدَّمَتْ لِذَلِكَ مِنْ مَالِهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي مُوَلِّيَاتِكُمْ.
وَكَمَا قُلْنَا لِأَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ نَقُولُ كَذَلِكَ لِلنِّسَاءِ: إِنَّ الزَّوَاجَ السَّعِيدَ لَيْسَ بِتَكْلِيفِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا يُطِيقُ؛ مِنْ أَجْلِ شِرَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ الْمُجَوْهَرَاتِ وَالْمَلَابِسِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْنِ الْمُصْطَنَعِ، وَإِقَامَةِ الْحَفْلَةِ الْفَخْمَةِ.
فَكَمْ سَمِعْنَا عَنْ تَسْهِيلِ بَعْضِ الْآبَاءِ أَمْرَ الزَّوَاجِ مِنْ بَنَاتِهِمْ، وَلَكِنْ تَقِفُ الْبِنْتُ أَوْ أُمُّهَا أَوْ أَخَوَاتُهَا حَجَرَ عَثْرَةٍ فِي تَحْقِيقِ الزَّوَاجِ؛ بِسَبَبِ كَثْرَةِ طَلَبَاتِهِنَّ الَّتِي تُثْقِلُ كَاهِلَ الزَّوْجِ مِمَّا يَدْعُو بَعْضَهُمْ لِتَرْكِ الزَّوَاجِ كُلِّهِ.
وَنَقُولُ أَيْضًا -لِلْبَنَاتِ وَأُمَّهَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ-: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَهِّلُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَقَلِّلُوا وَلَا تُكْثِرُوا، وَارْضَوْا مِنَ الزَّوْجِ الْكُفْءِ بِالْيَسِيرِ، وَلَا تُحَمِّلُوهُ الْكَثِيرَ، فَكَمْ مِنْ بِنْتٍ ذَبُلَتْ زَهْرَةُ شَبَابِهَا، وَتَقَدَّمَتْ سِنُّهَا وَاسْتَضَافَتْهَا الْعُنُوسَةُ بِسَبَبِ الْمَطَالِبِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أُرِيدَتْ مِنَ الْخَاطِبِينَ، وَحِينَمَا فَاتَهَا قِطَارُ الزَّوَاجِ عَضَّتْ هِيَ وَأُسْرَتُهَا أَصَابِعَ النَّدَمِ، وَنَدِمَتْ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُسَهِّلَ لِكُلِّ مُرِيدٍ الْعَفَافَ زَوَاجَهُ، وَأَنْ يُعِينَ كُلَّ مَنْ أَعَانَهُ، وَيُيَسِّرَ أَمْرَ كُلِّ مَنْ يَسَّرَ لَهُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْعَظِيمِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْمَهْرَ يَجُوزُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَكِنَّ تَيْسِيرَ الْمُهُورِ لِلْأَكْفَاءِ مِنْ صِفَاتِ الْكِرَامِ، وَاخْتِيَارِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، فَعَنْ "عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: فِي ثَلَاثِ قَبَضَاتٍ زَبِيبٍ مَهْرٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا حَلَّتْ لَهُ. وَسُئِلَ رَبِيعَةُ عَمَّا يَجُوزُ مِنَ النِّكَاحِ فَقَالَ: دِرْهَمٌ. قُلْتُ: فَأَقَلُّ؟ قَالَ: وَنَصِفٌ. قُلْتُ: فَأَقَلُّ؟ قَالَ: حَبَّةُ حِنْطَةٍ، أَوْ قَبْضَةُ حِنْطَةٍ"(التَّوْضِيحُ لِشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ).
وَتَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الْأَحْبَابُ- فِي هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْمُضِيئَةِ فِي تَيْسِيرِ الزَّوَاجِ وَتَخْفِيفِ الْمُهُورِ:
فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ". فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. قَالَ: "أَعْطِهَا ثَوْبًا". قَالَ: لَا أَجِدُ قَالَ: "أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ". فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ! فَقَالَ: "مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟"، قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ".
"وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَاقَ لِزَوْجَتِهِ مَهْرًا قَدْرَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ كَافِرٌ، وَأَنَا مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، وَلَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ).
فَيَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ: اقْتَدُوا بِهَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ فِي تَيْسِيرِ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ.
وَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ | إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحُ |
وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ التَّزْوِيجَ تِجَارَةٌ يُطْلَبُ مِنْهَا الرِّبْحُ الْمَالِيُّ؛ فَإِنَّ أَسْلَافَكُمْ لَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَنْكِحَتُهُمْ أَبْرَكَ الْأَنْكِحَةِ، حَتَّى دَامَتْ عِشْرَتُهُمْ، وَامْتَدَّتْ سَعَادَتُهُمْ وَنَسَلُوا الذَّرِّيَّةَ الصَّالِحَةَ، وَمِنْ ثَمَّ حَثُّوا عَلَى تَيْسِيرِ الزَّوَاجِ، فَتَسَابَقَ إِلَيْهِ النَّاسُ أَفْوَاجًا تِلْوَ أَفْوَاجٍ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.