الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن محمد النغيمشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فَمَا ظَنُّ فتاةٍ رَغِبَت عن الزواجِ وأحْجَمَتْ عَنهُ يومَ أن كان يُطرَق لها بابُ والدها؟! وَمَا ظَنُّ فتاةٍ رُزِقَتْ بزوجٍ سَوِيٍّ، فسَعَت مُتَعَجِّلةً في طَلَبِ خُلعِها مِنْه لأدنى سببٍ؟! ما ظنها حينَ تَقَدَّمَت بها السنون فَلَم ترَ حولَها ولداً يواسِيْها، ولا زوجاً يُجالِسُها، ولا أُسرةً تَلُفُّ حولَها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الحَمْدَ للَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً، أَمَّا بَعْدُ:
أيها المسلمون: تُشَيَّدُ بيوتٌ، وتُبنى منازلُ، وتعمرُ دور؛ (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)[النحل: 80]؛ سَكَناً تَسْكُنُ فيها النفوسُ وتطمئن، وتأوي إليها الأجساد وترتاح, مَسَاكِنُ تتربى فيها أُسَرٌ، ويترعرعُ فيها رِجالٌ، ويُصْنَعُ فيها أجيال.
مَسَاكِنُ تُسْتَرُ فيها أسرارٌ، وَتُحْفَظُ فيها أموالٌ، وَتُحْمَي فيها حُرُمات, وليس للنفوس سكينةٌ, مالم تكن المساكِنُ بالتقى عامرة.
ولا تَطِيْبُ المساكِنُ إلا بِطِيْبِ ساكِنِيْها، يَطِيْبُ الزوجانِ, فيهتديانِ بهدي القرآنِ، ويستقيمان على دربِ الإيمان؛ فَتُرَفْرِفُ السعادةُ بينهما، هُما لبعضهما سَكَنٌ وسِكِينةٌ؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].
عباد الله: والحياةُ الزوجيةُ والآصِرةُ الأُسرية, من أقوى الروابطِ وأمتَنها، أُقِيمَت على أصدقِ عهد، وأنشئت على أغلظ ميثاق, (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[النساء: 21].
حياةٌ زوجيةٌ, أقامَ نظامَها شَرْعُ مُنَزَّلٌ من رب العالمين؛ لتبقى على أكرمِ حالٍ، وأطيبِ عَيْش، وأحْسَنِ مُنقلَب.
حياةٌ زوجيةٌ, هي نواةٌ لشجرةٍ تَمْتَدُّ غصونُها، وتَتَشَعَّبُ فُرُوُعُها، وتتجذرُ عُرُوقُها، وتَطيبُ ثَمَرَتُها.
حياةٌ زوجيةٌ, رُسِمَت معالِمُ العلاقةِ بين أفرادِها وُفْقَ شريعةٍ ربانيةٍ، وفُصِّلَت فيها الحقوقُ وُفْقَ حِكمةٍ إلهية، وقُسِّمَت فيها الواجباتُ وبُيٍّنَت فيها المُتَطَلَّبات.
الحياةُ الزوجيةُ, طمأنينةٌ للزوجين، وفطرةٌ للجِنْسَيْن، فلا يَزْهَدُ في الزواجِ مِن الجِنسينِ مع القُدرةِ عليه سِوِي، ولا يتورَعُ عنه من المُتَنَسِّكِيْنَ فقيه، خَيرُ البَرِيَّةِ قالها: "أمَا واللهِ إِنِّيْ لأَخْشَاكُمْ للهِ، وأتقاكم له، لكني أصومُ وأفطرُ، وأصلي وأرقدُ، وأتزوجُ النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي"(متفق عليه).
قَوَّمَ الإسلامُ العلاقةَ الزوجيةَ وهذَّبَها، فَفَصَّلَ فيها الحقوقَ، وأَظْهَرَ فيها المطالِبَ، وأبانَ فيها الواجبات, وأوصى الزوجينِ بِحُسنِ العِشْرَةِ، وتبادُلِ المودةِ، وبذل المعروف؛ (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء: 19], (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[البقرة: 228].
حَمى الإسلامُ حقوقَ الزوجين أن تُنتهك، فلا ظُلْمَ بينهما ولا جَورَ، ولا بخسَ ولا عدوان, وفاءٌ بالحقوقِ، وقيامٌ بالواجباتِ، ونشرٌ للمحبة والرحمة والإحسان، فإن تنافرت الطِباعُ بين الزوجين، وارتحلت المودةُ بينهما، ولم يَبقَ للوئامِ بينهما سبيل؛ فهنا جاءَ التوجيهُ القرآنيُ ظاهراً: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة: 229].
عباد الله: والحفاظُ على عَقْدِ الزوجيةِ ليبقى مصوناً مَحْمِيَّاً ثابتاً، مِن آكَدِ الواجباتِ وأعظمها, وإنَّ زُهْدَ أحدِ الزوجينِ بالحياةِ الزوجيةِ ومُسَارَعَةِ الزوجِ لِفَض عقد النكاحِ بإيقاعِ الطلاقِ لأدنى الأسبابِ, أو مطالبِةِ المرأةِ زَوْجَها بطلاقِها أو مُخالَعَتِها، دُوْنَ سببٍ لازِمٍ أو ضررٍ مُحَققٍ قائم؛ لهو مِن أخْطَرِ القراراتِ وأرْعَنِها، يَجُرُّ خلْفَهُ ويلاتٍ، يُخَلِّفُ بَعدَه حسراتٍ، ولربما أتت الحسراتُ بعد عُقودٍ مِن الزمن.
وحِينَ تلوحُ في الأُفُقِ أماراتٌ للخطر، وتتكاثَرُ المظاهِرُ الخاطئةُ في حياةِ الناس، وتَظُهُرُ الإحصاءاتُ الرسميةُ بالأعداد المُخِيْفَةِ, لتوثيقِ حالاتِ الطلاقِ وفض عقودِ الزوجيةِ, فهنا, يَجِبُ على العُقلاءِ الحكماءِ والأولياءِ والغيورين, أن يَصدقوا في بذلِ النُّصحِ، وأن يجتهدوا في نَشْرِ الوعيِ، وأن يتعاضدوا في سبيلِ الإصلاحِ.
فالخلافاتُ الزوجيةُ العابرةُ لَنْ يَخْلُوَ مِنها بيتٌ، كما الأجسادُ تَنْتابُها العِلَلُ، وعِلاجُ الخلافاتِ الزوجيةِ، كعلاجِ الأمراضِ الجَسَدِيَّة, تُدَاوىَ بما يُصلِحُها، ولا يُصَارُ إلى استئصَالِها إلا حينَ يَتَحَقَّقُ اليأسُ مِن شفائها، ويُخشى من تضاعُفِ سراية المرض واتساعِ خَطَرِه, فُهُنا يأتي العملُ بقول الله: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)[النساء: 130].
وفي زَمَنِ سَطْوَةِ الإعلامِ وشراسةِ هَجْمَتِه، وانتكاسِ بعضِ سَدَنَتِه، واتساعِ دائرةِ المتابعين لبعض وسائل التواصلِ الاجتماعي المؤثرةِ في حياةِ الناسِ, وتَصَدُّرِ بعضِ التافِهيِنَ لَها، وارتفاعِ شُهرَتِهِم، وعُلُوِّ أصواتِهم، وسذاجةِ بعضِ أُطْرُوحاتِهم، فَقَد تَبَدَّى أثَرُهُم جلياً في بعضِ المناحي الاجتماعيةِ الخطيرة, تَرْسِيُخٌ لِمفاهِيمَ مُنْتَكِسة، وتعزيزٌ لدعواتٍ مُرْتَكِسة، مَفادُها, أن الفتاةَ بلا زَوْجٍ ستبقى أكثرَ حُرِّيةً وأتَمَّ مُتعةً، وأن الزواجَ قَيْدٌ مَتِيِنٌ، وَرِقٌّ طَوِيْل، واستعبادٌ كَئيْب!, تمزيقٌ للحياةِ الزوجيةِ، وتَخبيبٌ بَيْنَ الزوجين، يُعْرَضُ ذلكَ بالتصريحِ تارةً وبالتلميح والإيحاءِ تارات، وويلٌ للمفسدين.
فتاةٌ لها صَوتٌ وحضورٌ في عالمِ المشاهير, لم يُكْتَبْ لها التوفيقَ في استمرارِ عقد زواجِها، وَحِيْنَ وَقَعَ في يَدِهَا صَكُ طَلاقِها، أظهرت رَدَّ فعلٍ ممقوتٍ, يتسِمُ بالجهلِ والجبروت، إذ أقامت حفلاً مُعلناً مُشَاعاً مُصَوَّراً, تظاهَرَتْ فيه بالفرحِ لطَلاقِها!.
وفي القلبِ لوعةٌ لو تَكَشَّفَت | لذابت لها صُمُّ الصلاب الجلامد |
تَحْسِينٌ للقبيحِ، وتزييفٌ للحقيقةِ، وتضليلٌ للمغفلين, أما في شريعتنا, فالفرحُ يُعلنُ عند عقد النِّكاحِ لا عند وَقعِ الطلاق, قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمنِ بنِ عوفٍ حين تزوج: "أولِمْ ولو بشاةٍ"(متفق عليه), (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].
أقول ما سمعتم, واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
عباد الله: إن الحياةَ الزوجيةَ فِطرةٌ وشَرِيعة؛ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرعد: 38], وإن أصواتاً تنادي بمصادَمَةِ الفِطرةِ، وتتغنى بمقارَعَتِها، وتُجاهِرُ بمناكَفَتِها لفي شقاقٍ بعيد، وإنَّ إصغاءَ بعضِ الشبابِ والفتياتِ وانخداعِهِم بمثلِ هذه الدعاوى والدعوات، أمرٌ تُقْرَعُ لأجلِهِ أجراسُ الخَطَر!.
وإن تَصْوِيْرَ الزواجِ بأنه مُتْعَةٌ مجردةٌ، وأن هذه المتعةَ يُمكِنُ للفتاةِ أن تستغني عنها إذا تعارَضَت مع مُتَعٍ أُخرى في الحياةٍ المعاصِرةِ، مِن حُرِّيَّةٍ وانفلاتٍ وسياحةٍ ووظيفةٍ وعمل, إنَّ ذلك تصويرٌ مُضَلِّلٌ كاذِب!.
فلئن كان الزواجُ مًتْعةً وإشباعَ غَرِيْزَةٍ, فإنَّه قَبلَ ذلك ومَعَه, عِفَّةٌ للفتاةِ والفتى، وفيه لَهُما غَضٌّ للبصرِ، وتحصينٌ للفرج، وفي النفوسِ فراغٌ فِطْرِيٌّ لا يَمْلَؤُهُ غيرُ الزَّوجِ لزوجته والزوجةُ لزوجها, وفي الزواجِ قيامُ صرحٍ أُسَرِيٍّ يبقى ويمتد، فالولد الصالِحُ مِن زِيْنَةِ الحياةِ وَمُتْعَتِها، وهو سَنَدٌ للوالدين حالَ ضَعْفِهِما، وهو ذخرٌ لهمها بعد وفاتِهما.
ولئن استنكف الشابُ والفتاةُ عن الزواجِ في ريعانِ شبابِهما, ثمَّ خاضوا غِمارَ السنينِ فُرادى, فلسوفَ تَرْسُو بهما رياحُ الهوى على شواطئِ الحسرات, حين تُوَلِّيْ عنهما نَضَارَةُ الشبابِ، وتَحِلُّ بهما عوامِلُ التعريةِ، وَيَبِيْنُ فيهما الضعفُ، وَتَظْهُرُ فيهما الحاجةُ، هُناكَ تتلاشىَ أمامَهما بُرُوقُ الأمانيِ الكاذِبَة، ويَتَرَحَّل لمعانُ السَّرابِ الخادِع!.
فَمَا ظَنُّ فتاةٍ رَغِبَت عن الزواجِ وأحْجَمَتْ عَنهُ يومَ أن كان يُطرَق لها بابُ والدها؟! وَمَا ظَنُّ فتاةٍ, رُزِقَتْ بزوجٍ سَوِيٍّ، فسَعَت مُتَعَجِّلةً في طَلَبِ خُلعِها مِنْه لأدنى سببٍ؟! ما ظنها حينَ تَقَدَّمَت بها السنين فَلَم ترَ حولَها ولداً يواسِيْها، ولا زوجاً يُجالِسُها، ولا أُسرةً تَلُفُّ حولَها وتُؤانِسُها؟!؛ لَقَد بِيْعَ هذا بثمنٍ بَخْسٍ أيامَ طيبِ الشبابِ في مزادِ الماكرين!.
أيها العقلاءُ مِنَ الشبابِ والفتيات: لا تخلعوا لباسكم, فما مَشى بين الأنامِ عاقِلٌ بغير لباسِ؛ فالزوجُ لباسٌ لزوجَتِه، والزوجةُ لباسٌ لِزَوجِها؛ (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)[البقرة: 187], لا تخلعوا لباسكم.
فما يستوي مَن سارَ عُريانَ كاشِفاً | ومَن كان يكسو جِسمَه بلباسِ |
اللهم ألِّفْ بينَ قلوبِ عبادِك المسلمين، واكفهم شر الفتن.