الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
الاعتراف افتقار لله وانكسار وهذا لبّ العبودية، وفيه هضم للنفس مع ربها العظيم، الذي لا يزال العبد يتقلّب في نعمه وآلائه، ولو قضى العبد عمره في طاعة ما جزى نعمة نَفَسِه الدائم في يقظته ومنامه، ولا جزى نعمة القلب الذي ينبض من قبل ولادته لم يتوقف..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: قال بلال بن سعد -رحمه الله-: "اعلموا أنكم تعملون في أيامٍ قصارٍ لأيامٍ طوالٍ، في دار زوالٍ لدارِ مُقامٍ، ودارِ حزنٍ ونَصَب لدارِ نعيمٍ وخُلْد".
إخوة الإيمان: سؤالٌ عظيم طَرَحَه أفضل الأمّة على أفضل الرسل، سؤال يتعلق بمخ العبادة؛ يريد أن يدعو به في أفضل العبادات العملية، فتعالوا إلى هذا الخبر .. أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي، قالَ: قُلْ: "اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"، وفي رواية لمسلم: عَلِّمْنِي يا رَسولَ اللهِ، دُعَاءً أَدْعُو به في صَلَاتِي، وفي بَيْتِي.
الله أكبر! صدّيقُ الأمةِ المبشرُ بالجنةِ أرشده الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الدعاء العظيم، فتعالوا نتأمل جملَه.
"عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي"؛ لأن في الصلاة أعظم العبادات العملية، وفي سجودها أقربُ ما يكون العبد من ربه.
"قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا"؛ فالصدّيق على منزلته العالية ليس معصوماً، وليس بين المخلوقين وبين الخالق -سبحانه- نسب؛ إنما محض العبودية والافتقار من العبد، ومحض الجود والإحسان من الرب -عز وجل-.
وفي هذا الاعتراف افتقار لله وانكسار وهذا لبّ العبودية، وفيه هضم للنفس مع ربها العظيم، الذي لا يزال العبد يتقلّب في نعمه وآلائه، ولو قضى العبد عمره في طاعة ما جزى نعمة نَفَسِه الدائم في يقظته ومنامه، ولا جزى نعمة القلب الذي ينبض من قبل ولادته لم يتوقف، فكيف بالنعم الأخرى الكثيرة؟!
فحق الله -سبحانه- كبير، ولا يستطيع العبدُ أن يلحقَ له جزاءً فكيف مع قلة طاعتنا وكثرة ذنوبنا، وهذا الاعتراف بالتقصير ينفعُ ويرفعُ العبد عند ربه -جل وعز-، وجاء في الدعاء العظيم: "ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ"، وهذا إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة، ففي الإسلام العلاقة بين العبد وربه لا تحتاج إلى وسطاء، بل تضرعٌ وانكسارٌ وطلبٌ من الرب -سبحانه- بلا واسطة، بخلافِ دياناتٍ أخرى ينكسرون لمخلوقين طلباً لغفران ذنوبهم، فالحمد لله على نعمة الهداية للإسلام.
"ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ" جملة تضمنت التوحيد والاستغفار، وقوام الدين بهما؛ فقد قرن الله بين التوحيد والاستغفار في مواضع قال -سبحانه-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[محمد:19]، وفي موضع آخر: (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ)[هود:2-3].
وفي قوله: "فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ" تنكيرٌ يفيدُ أن المطلوبَ غفرانٌ عظيمٌ، مغفرة يتفضل بها -سبحانه- على عبده المقصرِ الظالمِ لنفسه. وكلما ازداد العبدُ تواضعاً لله وعبوديةً ازداد إلى الله قرباً ورفعةً، ومن ذلك توبته واستغفاره.
"فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ"، وفي هذا توسل بأسماء الله -سبحانه- قال -جل وعز-: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، وقد اقترن الغفور والرحيم في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرة، ولعله من أسرار ذلك أنه غفور للعباد لأنه -سبحانه- رحيم.
قال ابن حجر: "هذا الدعاء من الجوامع؛ لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير وطلب غاية الإنعام؛ فالمغفرة ستر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال الخيرات".
إخوة الإيمان: ونجد أن هذا الدعاء وافق سيد الاستغفار في ثلاثة أمور: وافَقَهُ في التوحيد وافقه في الاعتراف لله بالذنب ووافقه في طلب المغفرة.
اللَّهُمَّ إنِّا ظَلَمْنا أنفسنا ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لنا مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِا، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ العفوِ الغفّار، وأشهد إلا إله إلا الله الواحدُ القهّار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأخيار والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد إخوة الإيمان: فإن التوبة ليست نقصاً، بل هي من أفضل الكمالات وهي واجبة على جميع الخلق، وهي الغاية وبها كمال القرب من الله -عز وجل-، قال -سبحانه-: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة:117]، وقال -عز وجل-: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)[الأحزاب:73].
وبالمغفرة نال النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة يوم القيامة؛ ففي الصحيحين في حديث الشفاعة: "ائْتُوا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، عَبْدًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبهِ وما تَأَخَّرَ".
عباد الرحمن: وقد أخبرنا -سبحانه- عن دعواتٍ غفر لأهلها، فيها اعتراف بالاقتراف وهم سادات البشر؛ فهذا أبونا آدم -عليه السلام- و أُمّنا حواء (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:23]، وهذا يونس بن متّى (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء87- 88].
وهذا خبر موسى -عليه السلام- قبل النبوة لما قتل خطأ (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[القصص: 16]، وستجد في دعوات أفضل الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- استغفارًا كثيرًا ودعواتِ مغفرةٍ متنوعةٍ كثيرةٍ عامةٍ وخاصة، مجملةٍ ومفصلة.
يقول إسحاق الموصلي: "الاعتراف يهدم الاقتراف"، ومصداقها في التنزيل: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[التوبة:102].
ختامًا: احرص على ملازمة هذا الدعاء الذي علَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر في صلواتك واجعله ضمن دعواتك.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.