الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - السيرة النبوية - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أيها المؤمنون: حديثنا عن نوعٍ مهمٍ عظيمٍ في باب الرحمة ألا وهو -أيها العباد-: رحمة الوالد لولده؛ فإنها -يا معاشر المؤمنين- أساس الأبوَّة وأصلها، ومرتكز التربية وقاعدتها، فإذا وُجدت الرحمة في قلوب الآباء والأمهات حلَّت الخيرات، وتوالت البركات، وتحققت المصالح الكبيرات، والمنافع العظيمات؛ برًّا ووفاءً وإحسانًا، واستقامةً على طاعة الله بإذن رب الأرض والسموات. بينما -عباد الله- إن نُزعت الرحمة من قلب الوالد حلَّ الشقاء، وتوالى العناء، وتفرق الأبناء، وكثرت الشدة و...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- ربكم، وراقبوه في جميع أعمالكم، وكل حركاتكم وسكناتكم؛ مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: الإسلام دين الرحمة، ونبينا -عليه الصلاة والسلام- نبي الرحمة، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّى وَالْحَاشِرُ، وَنَبِي التَّوْبَةِ، وَنَبِي الرَّحْمَةِ"، وفي الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ"، وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"، وفي الصحيحين أيضا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ".
ورحمة الإسلام -أيها المؤمنون- رحمة عامة شاملة تتناول حتى الحيوان البهيم؛ ففي الأدب المفرد بسند صحيح أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله الشاة أذبحها وأرحمها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ".
أيها المؤمنون: حديثنا عن نوعٍ مهمٍ عظيمٍ في باب الرحمة ألا وهو -أيها العباد- رحمة الوالد لولده؛ فإنها -يا معاشر المؤمنين- أساس الأبوَّة وأصلها، ومرتكز التربية وقاعدتها، فإذا وُجدت الرحمة في قلوب الآباء والأمهات حلَّت الخيرات، وتوالت البركات، وتحققت المصالح الكبيرات، والمنافع العظيمات؛ برًّا ووفاءً وإحسانًا، واستقامةً على طاعة الله بإذن رب الأرض والسموات.
بينما -عباد الله- إن نُزعت الرحمة من قلب الوالد حلَّ الشقاء، وتوالى العناء، وتفرق الأبناء، وكثرت الشدة والبلواء، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ"؛ وهذا فيه إلماحةٌ إلى أن انتزاع الرحمة موجبٌ للشقاء، وسبب لحلوله.
ولهذا -عباد الله- فإن أعظم ما يكون في باب التأديب والتربية للأبناء أن يقوم ذلك على رحمتهم والرأفة بهم والتودد والتلطف والإحسان؛ فإن هذه ركيزة عظيمة وأصلٌ متين لابد منه في هذا الباب.
أيها المؤمنون: جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن ناسًا من الأعراب أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال واحد منهم: "يا رسول الله أتقبِّلون الصبيان! فوالله ما نقبِّلهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَ أَمْلِكُ إنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ"، وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الأقرع بن حابس أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبِّل الحسن فقال: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ"، وجاء في السنن أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا".
أيها المؤمنون: تأملوا في هذا المقام إدراكًا لعظيم شأن الرحمة في مقام التربية والتأديب قول الله -عز وجل-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159]، مع قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِه" أي أن الأصل في الوالد مع ولده أن يكون رحيمًا بهم.
ولهذا فإن جماعة من المفسرين أوردوا هذا الحديث تحت هذه الآية في سياق بيان معناها وإيضاح مدلولها؛ تنبيهًا بذلك إلى عظم شأن الرحمة في مقام التأديب والتربية، وأن انتزاع الرحمة من القلوب وأن يحل محلها العنف والشدة موجب للتفكك والشقاء كما مر البيان، وهذا فيه بيان أن من يوفقه الله -عز وجل- لرحمة أبنائه أن ذلك موجبًا لرحمة الله -سبحانه وتعالى- له؛ فإن من يرحم يرحمه الله، ومن لا يَرحم لا يُرحم.
أيها المؤمنون: جاء في الحديث أن عائشة -رضي الله عنها- أتاها امرأة ومعها طفلان لها؛ فأعطتها عائشة -رضي الله عنها- ثلاث تمرات، فأعطت كل صبيٍ تمرة؛ فأكل الصبيان التمرتين ثم نظرا إلى أمهما، فعمدت إلى تمرتها وشقتها نصفين وأعطت كل صبي نصف تمرة، فلما جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبرته عائشة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا يُعْجِبُكِ مِنْ ذَلِكَ! لَقَدْ رَحِمَهَا اللهُ بِرَحْمَتِهَا صَبِيَّيْهَا".
نسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا أجمعين من الرحماء.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون: صح في الحديث عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَمْ يَدْخُلِ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ".
والرفق -عباد الله- موجبه أن يكون المرء رحيما، فإذا وُجدت الرحمة ُوجد الرفق ووجدت أنواع الخيرات وصنوف الأخلاق الفاضلات.
أيها المؤمنون -عباد الله-: إن هذه الأخلاق الرحمة وغيرها تحتاج من العبد إلى أمرين لابد منهما: كثرة الدعاء، ولا سيما بالمأثور: "اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا انت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت".
وبالمجاهدة للنفس فإن الله -تعالى- يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
وصلُّوا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدِّد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم كما حسَّنت خلْقنا فحسِّن أخلاقنا، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك، وسدِّده في أقواله وأعماله، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله، أوله وأخره، علانيته وسره، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا من وسعت كل شيء رحمة وعلما أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيثا مغيثا، هنيئًا مريئا، سحًّا طبقا، نافعًا غير ضار، عاجلا غير آجل، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180-182].