المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - كتاب الجهاد |
كأنك تعيش لحظاتها، ذُكرت فيها أحوالُ العدوِّ الخارجيِّ والداخلي، وثباتُ المؤمنين، وإرجافُ المنافقين، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها سورة الأحزاب، وهي سورة تضمنت ذكرَ هذه الغزوة، التي نصر الله فيها عبده -صلى الله عليه وسلم-، وأعزَّ فيها جنده المؤمنين، وهزم الأحزاب الذين تحزبوا عليه وحده بغير قتال، بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم".
الخطبة الأولى:
في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقائع وأحداث، غيَّرت مجرى التاريخ، بدءًا من بعثته، فهجرته، فغزواته، لذا تجد أن كل حدث منها يُعتبر بدايةَ تحوُّل، ونقطةَ انطلاقة لبزوغ فجر جديد.
ومن أعظم تلك الوقائع غزوةُ الأحزاب، والتي سمى الله بها سورةً من سور القرآن الكريم، ذكر -سبحانه- ما دار فيها من أحداث، وكأنك تعيش لحظاتها، ذُكرت فيها أحوالُ العدوِّ الخارجيِّ والداخلي، وثباتُ المؤمنين، وإرجافُ المنافقين، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها سورة الأحزاب، وهي سورة تضمنت ذكرَ هذه الغزوة، التي نصر الله فيها عبده -صلى الله عليه وسلم-، وأعزَّ فيها جنده المؤمنين، وهزم الأحزاب الذين تحزبوا عليه وحده بغير قتال، بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم".
وقد حدثت هذه الغزوةُ بعد أن أذاق المسلمون كفارَ قريشٍ خسائرَ كبيرةً في بدر وأُحد، فأراد المشركون أن يُنْهوا هذا الصراع، ويجمعوا أكبر قدر ممكن من المعادين لدعوة الإسلام، فوجدوا مطلبهم في بني النضير، الذين أُجلوا من المدينة، أو بإغراء بعضٍ من القبائل -كغطفان- أو من كان حليفًا لقريشٍ بإعطائهم نصفَ ثمارِ خيبر.
سار جيش المشركين بعُدَّةٍ قدرها عشرةُ آلاف مقاتل، مقابلَ ثلاثةِ آلاف مقاتلٍ من المسلمين، فاستشار الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ -رضي الله عنهم- في الأمر، فأشار عليه سلمانُ -رضي الله عنه- بحفر الخندق في المنطقة الوحيدة المكشوفة أمامَ الغُزاة، أما باقي الجهاتِ الأخرى فهي كالحِصْن لتشابك الأبنية وأشجارِ النخيل والحرّات التي يصعب دخولُ المشركين منها.
وفي هذه الغزوة وقفات:
أولاها: شارك الجميع في حفر الخندق، بروح الرجل الواحد، فلا فرق بين غني وفقير، يتقدمهم سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-، قال البراء -رضي الله عنه- كما في الصحيحين -: "رأيت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يومَ الأحزاب ينقل الترابَ، وقد وارى الترابُ بياضَ بطنه وهو يقول: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل السكينة علينا، وثبّت الأقدام إن لاقينا، إن الأُلى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري- إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلما رأى ما بهم من النَصَب والجوع قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة"، فقالوا مجيبين له: "نحن الذين بايعوا محمدًا، على الجهاد ما بقينا أبدًا".
وفي تحصنهم هذا فعلٌ للأسباب، وتهيئٌ للقتال، فجموع الأحزاب قدموا من خارج المدينة، ويهودُ بني قريظة في داخلها، وبينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد في صد أيّ عدوٍّ يقدم للمدينة، إلا أنهم نقضوا العهد، قال -تعالى- فيهم: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ)[الأنفَال: 56].
ثاني هذه الوقفات: من خصال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعجبه الفأل، فعندما عرضت صخرةٌ عند حفر الخندق، ضربها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عِدَّة ضربات، وفي كل ضربة يُبَشّر أصحابه بإعطائه مفاتيحَ الشامِ، وفارسٍ، والمدائنِ، واليمنِ.
فكانت منه -صلى الله عليه وسلم- مبشراتٌ أن هذه البلادَ سيفتحها المسلمون مستقبلاً، وقد كان موقف الصحابة -رضي الله عنهم-: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)[الأحزَاب: 22]، وأما أهل النفاق فقالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا)[الأحزَاب: 12].
ثالث هذه الوقفات: ثباتُ موقفِ أهلِ الإيمان في الشدة والرخاء، رَغم كثرةِ الأعداء وتنوعِهم، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عِمرَان: 173]، مع أن يهود بني قريظة نقضوا العهد، وقد وصف الله حالهم بقوله -عز وجل-: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزَاب: 10-11].
الوقفة الرابعة: أن مناخ تلك الغزوة مُتغير وصعب، فالليالي باردةٌ ومظلمة، وذاتُ ريح شديدة، قال حذيفة -رضي الله عنه- في وصفها: "ما أتت علينا قطُّ أشدُّ ظلمة، ولا أشدُّ ريحًا، في أصوات ريحها أمثالُ الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدُنا إصبعه"، بل قال قائل من المنافقين: إن محمدًا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وإن أحدَنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط.
استمر الحال على هذا الحصار مدةَ َأربعة وعشرين يومًا، والرمي بالنَّبل لا ينقطع، فقام نعيم بن مسعود -رضي الله عنه- حين أتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا مُخْفيًا إسلامه، وعرض عليه أن يأمره بما يشاء، وكان يأمنُه الفريقان جميعًا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما أنت رجلٌ واحد فينا، ولكن خَذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خُدَعة، فقام بتشكيك يهود قريظة بالمشركين، وأخذ كلُّ واحد منهم يتهم الآخر بالخيانة.
الوقفة الخامسة: دُعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتضرعُه لربه، فكان من دعائه: "اللهم منزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم"(متفق عليه).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيرَ الصلاة ِفي تلك الأيام، فكان إذا حزبه، أو كربه أمر، فزع إلى الصلاة -كما في قصة عودة حذيفة رضي الله عنه- حين أتى بخبر القوم، فوجد رسولَ الله يصلي، فاستجاب الله دعاءَ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهبَّت ريحٌ شديدةٌ أكفأت قدورَ المشركين، واقتلعت خيامَهم، وأطفأت نيرانَهم، ودفنت رحالهم، وكان من قوة هذه الريحِ أنها جعلتهم لا يوقَدُ لهم نار، ولا يَقَرُّ لهم قَرار، حتى ارتدوا على أعقابهم بخيبة وخسارة.
بعث الله عليهم صَبا باردةً في ليلة شاتية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرْت بالصَّبا، وأهُلكت عاد بالدَّبور"(متفق عليه).
والدَّبور هي الريح الغربية، والصَّبا الريح الشرقية. فأخصرتهم -أي أهلكتهم بالبرد- وسَفَّت الترابَ في وجوههم، وقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وماجت الخيل بعضُها في بعض، وقُذف في قلوبهم الرعب والخوف، فكان كل رئيس قبيلة يقول: "يا بَني فلان! إليَّ، فيجتمعون إليه، فيقول: النجاء النجاء".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أحداث تلك الغزوة عديدة، فقد تضمنت مبشراتٍ بفتح الأقاليم، وانطلاقةً لغزو قريشٍ بدل قدومهم من مكة، كما في بدرٍ وأُحد، وهذه بدايةُ زوال قوةِ قريش لهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "الآنَ نغزوهم، ولا يغزوننا"(رواه البخاري)، فكان -صلى الله عليه وسلم- يغزوهم حتى فتح الله لهم مكة.
كما أن بعد هذه الغزوةِ أجلى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يهودَ بني قريظة من المدينة لمَّا نقضوا الصلح، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(رواه البخاري).
ومن الدروس أيضًا: أن قوة الله لا تُغلب، ولا يعلم جنود ربك إلا هو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[الأحزَاب: 9].
فأرسل الله عليهم ريح الصَّبا، فلا يَقَرُّ لهم قرار، ولا يثبت لهم إناء، ولا توقد لهم نار، وهم في أَمَسِّ الحاجة لها، قال ابن كثير -رحمه الله-: "لولا أن الله جعل رسوله -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، لكانت هذه الريحُ عليهم أشدَّ من الريح العقيم التي أرسلها الله على قوم عاد".
فكفى الله المؤمنين القتال وحده، ونصر عبده، وأعز جنده، ولهذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده"(متفق عليه).
الأحداث والوقائع في هذه الغزوة كثيرة وعديدة، منها: وليمة جابرِ بنِ عبد الله -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الطعام لا يكفي إلا لرجل أو رجلين، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- من كان حاضرًا، وعددهم ألف، لكنَّ الله بارك في الطعام، فأكلوا منه كلُّهم حتى شَبِعوا، وتركوا الكثير، وأكل منه جابرٌ وأهلُه وأهدوا منه أيضًا.
وقصة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لحذيفةَ -رضي الله عنه- ومجيئِه بخبر القوم.
ومن الأحداث التي حصلت للمسلمين قوةُ مناوشاتِ العدو، والرميُّ بالنَّبل مدةَ الحصار دون انقطاع، وهذه شغلت المسلمين عن أداء صلاة العصر، فصلوها بعد المغرب، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق فقال: "ملأ الله قبورَهم وبيوتَهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس"(متفق عليه).
والأحداث عديدة لأن أيام الغزوة طويلةٌ قاربت أربعة وعشرين يومًا، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
فاللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.