البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | تركي بن علي الميمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
فهذهِ لَيْلةُ القَدْرِ، وهذه خصائِصُها وأَعْمَالُهَا؛ فاغْتَنِمُوا لَيْلتَها، واسْتَكْثِرُوا مِنْ حَسَنَاتِها، وإذا اسْتَطَعْتَ ألا يَسْبِقَكَ فيها إلى اللهِ أحدٌ فافْعَلْ...
الخُطْبَةُ الأُوْلى:
عباد الله: بالأَمْسِ القَرِيب؛ كُنَّا نَسْتَقْبِلُ الشَّهْرَ الفَضِيْل، وها هُوَ قَدْ أَزِفَ على الرَّحِيل، ولكن بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ ثَمِيْنَة، إِنَّهَا العَشْرُ الأَخِيرة، وفيها لَيْلَةُ العُمُر، وغَنِيْمَةُ الدَّهْر، إِنَّهَا لَيْلَةُ القَدْر!
ولهذا كانَ نَبِيُّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- إذا دَخَلَت العَشْرُ الأَواخِرُ مِنْ رمضان: شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ (أخرجه البخاري، ومسلم)؛ وذلك طَلَبًا للأَجْر، وتحرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْر!
وسُمِّيَت لَيْلَةُ القَدْرِ بذلك؛ لِعِظَمِ قَدْرِهَا عِنْدَ الله؛ فهي لَيْلَةُ الْعَظَمَةِ والشَّرَفِ؛ ولأَنَّهُ يُقَدَّرُ فيها ما يكونُ في العامِ مِنَ الآجالِ والأرزاقِ والمقادير؛ ولأنَّ العملَ الصالحَ يكونُ فيها ذا قَدْرٍ عند اللهِ -تعالى-.
وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ القَدْرِ: أَنَّهَا لَيْلَةٌ نَزَلَ فيها القرآن؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، فأَنْزَلَ اللهُ أَفْضَلَ الكَلَام، بِأَفْضَلِ الليالي والأيام، على أَفْضَلِ الأَنَام!
وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ القَدْرِ: مُضَاعَفَةُ الأَعْمَال؛ قال -تعالى-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، فالعَمَلُ الصالحُ فيها خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ، قال الشيخُ السِّعْدِي: "وهذا مِمَّا تَتَحَيَّرُ فيه الألباب، وتَنْدَهِشُ لَهُ العُقُول، حَيْثُ مَنَّ اللهُ على هَذِهِ الأُمَّة، بِلَيْلَةٍ يَكُونُ العَمَلُ فيها يَزِيْدُ على نَيفٍ وثمانين سَنَة!".
وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ القَدْرِ: أَنَّها يَنْزِلُ فيها جبريلُ عليه السلام، ومَعَهُ الملائكةُ الكِرَام؛ وَيَنْزِلُونَ بِكُلِّ أَمْرٍ مِنَ الخَيْرِ والبَرَكَة؛ قال -تعالى-: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ).
وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ القَدْرِ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَلامٍ وأمان! أي: لَيْلَةُ خَيْرٍ، لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ؛ فَهِيَ سَلَامٌ على أولياءِ اللهِ وأهلِ طاعتِهِ.
وَمِنْ خَصَائِصِ لَيْلَةِ القَدْرِ: أنَّ الله يُقَدِّرُ فِيْهَا أَمْرَ السَّنَةِ إلى السَّنَةِ المُقْبِلَةِ؛ قال قتادَة: "تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ، وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ"؛ كما قال -تعالى-: (فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).
وإذا كانت ليلةُ القَدْرِ بِهَذِهِ المَكَانَةِ الرَّفِيعَة، والمَنْزِلَةِ الشَّرِيفَة؛ فَحَرِيٌّ بالمسلمِ أَنْ يَجْتَهِدَ في هذهِ العَشْر؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ؛ وطَمَعًا في إِدْرَاكِهَا، فقد كانَ نَبِيُّكُم -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غَيرِها! قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"(أخرجه البخاري).
وَمِنْ تِلكَ الأَعْمَالِ التي يَتَنَافَسُ فيها المُتَنَافِسُونَ لإِدْرَاكِ لَيْلَةِ القَدْر:
أولاً: قِيَامُ الليل: فـ "مَنْ قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم مِنْ ذَنْبِه"(أخرجه البخاري، ومسلم).
ثانيًا: الدُّعَاء: والمستَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ في جميعِ الأوقاتِ، وفي شهرِ رمضانَ أكثر، لا سِيَّما في العَشْرِ الأخيرِ مِنه؛ قالتْ عائشة: يا رسولَ الله! أرأيتَ إنْ عَلِمْتُ أيَّ ليلةٍ لَيْلةَ القَدر؛ ما أقولُ فيها؟، قال: "قُولِي: اللهمَّ إنك عفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي"(أخرجه الترمذي، وصححه الألباني).
ثالثًا: الاعْتِكَاف: وكانَ -صلى الله عليه وسلم- يَعْتَكِفُ في العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رمضان؛ حتى تَوَفَّاهُ الله -تعالى- (أخرجه البخاري، ومسلم).
وحقيقةُ الاعتكاف: قَطْعُ العلائقِ عن الخلائقِ؛ للاتِّصَالِ بالخَالِق! فالمعتكفُ قد حَبَسَ نَفْسَهُ على طاعةِ الله، وقَطَعَ عن نَفْسِهِ كُلَّ شَاغِلٍ يُشْغِلُهُ عنه، وعَكَفَ بِقَلْبِهِ وقَالِبِهِ على رَبِّه، فما بَقِيَ له هَمٌّ سِوى الله.
وإذا فاتَك الاعتكافُ في المَسْجِدِ لِعُذْر؛ فَلْيَعْتَكِفْ قَلْبُكَ فيه! قال -صلى الله عليه وسلم-: (سَبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه)، وَذَكَرَ مِنْهُم: (ورجُلٌ قَلْبُهُ معَلَّقٌ بالمساجدِ!) (أخرجه البخاري، ومسلم).
الخُطْبَةُ الثانية:
أَمَّا بعد: فهذهِ لَيْلةُ القَدْرِ، وهذه خصائِصُها وأَعْمَالُهَا؛ فاغْتَنِمُوا لَيْلتَها، واسْتَكْثِرُوا مِنْ حَسَنَاتِها، وإذا اسْتَطَعْتَ ألا يَسْبِقَكَ فيها إلى اللهِ أحدٌ فافْعَلْ! فهي "لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"(رواه النسائي، وقال الألباني: صحيحٌ لغيره).