القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | بندر بليلة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إنَّ مِنْ أبلغِ بواعثِ علوِّ الهِمَّة في نفس المؤمن قِصَرَ الأملِ، وتذكُّرَ سرعة انقضاء الدنيا، فمتى علم العبد ذلك وأيقَنَه، توفَّرت همتُه على المعالي، واطَّرَح الصغائرَ، واستبَق الخيرات، وسارَع إلى بلوغ المكرمات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي أودَع في صدور الموفَّقِينَ منابتَ الهِمَّة، أحمده -سبحانه-، أعان على كل مهمة، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، بدأ بالخير وأتمَّه، وأفاض بالبِرِّ وعمَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى خير مِلَّة، المبعوث إلى خير أمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، الذين أخذوا الكتاب بقوة، وسلم تسليمًا كثيرًا، تضوع به مجامر الألوة.
أما بعدُ: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واشكروه على إتمام النعمة، وإدراك البُغيَة، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه، ولا يُنال ما عندَه إلا بفضله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ممسك لما أرسل، ولا مرسل لما أمسك، سبحانه، كل الخير في يديه، وكلتا يديه يمين، وجهُه أكرمُ الوجوه، وجاهُه أعظمُ الجاه، وعطِيّتُه أفضلُ العطيةِ وأهناها، لا يجزي بآلائه أحدٌ، ولا يبلغ مدحتَه قولُ قائل.
أيها المؤمنون: إنَّ مِنْ أجمعِ الفضائلِ وأسناها، وأكرم الخلائق وأسماها علو الهِمَّة، ومَضاء العزيمة، واتقاد الطموح، فإنها تَبعَث على الاشتغال بمعالي الأمور، ونُشدان الكمالات، واستصغار ما دونَ النهايات، فمن علَتْ همتُه يختار المعاليَ، ومَنْ سَفُلَتْ همتُه لم يزل يدور في فلك الدنايا.
علو الهِمَّة -عباد الله- سائق إلى كل جميل، وداعٍ إلى كل حسن، وهو صفة لازمة لأهل الكمال، وشيمة راسخة عند أرباب الجد والتشمير، فلا تجد نابِهًا وهو دنيء الهِمَّة قاصر العزيمة كليل السعي، صاحب الهِمَّة إذا نوى صدق، وإذا عزم حقق، وإذا سار سبق، لا يعبأ للصعاب، ولا تثنيه الآلام، ولا تزعزعه الأسقام، وليس من خُلُق أخرى أن يكون صاحبه من أهل السيادة من علو الهِمَّة؛ فعالي الهِمَّة سيد القوم، ومقدَّم الأهل، وزعيم الصحب، ورئيس المقام، والناس في هذا الباب دروب شتى، وطرائق قدد، فمنهم مَنْ همةُ قلبِه عاليةٌ، وطموح نفسه وثَّاب، لكنه لا يدفعه بعمل، ولا يزوجه بسعي، فهذا امرؤ كثير التمني، قليل التعنِّي، والأماني من غير عمل كسراب بقيعة أو كبارق خُلَّب.
ومنهم مَنْ هو قاصر الهِمَّة، ضعيف الإرادة، منكسر العزم، فهذا مشتغل بساقط العمل، مكتفٍ بما تكتفي به الدوابُّ الهوامل، لا يتطلع إلى مأثرة، ولا يُسرِع إلى ندى، ولا يرجو صقالَ عقله، ولا غياث روحه، همُّه في لذة ومطعم، ومشرب ولذة؛ فهو بشريُّ الصورة، بهيميُّ الحقيقة.
ومنهم مَنْ له همة عالية، وإرادة جازمة، وسعي دؤوب، ولكنه يَقصُر همتَه على باب دون باب، وعمل دون عمل، فهذا مُحسِن لكنه مقصرِّ، وأكمل النفوس -عباد الله- نفس تهم بالمعالي، وتغز إليه المسير تأويبًا وإدلاجًا، وتستمطر التوفيق والهداية من مانح النفس حياتها، ومعطي الروح قوتها -جل وعلا-، وتجعل همها في كل معنى شريف، وعز منيف، فلا تعجز ولا تقصر، ثم تجعل غاية الهِمَّة ومنتهى العزيمة في صلاح القلب، ومداواة علل النفس، وإرادة الآخرة، وقصدها بالقصد الأول، وجمع الهم عليها، وتوفير العزم على إصابة أعلى درجاتها، وأكرم مقاماتها، وأبلغ نعيمها المقيم، وفي ذلك يقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مرشدا ومنبها إلى درجة عالية من علو الهِمَّة، لا ترضى بالدون، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"(أخرجه البخاري). والعاقل واللهِ مَنْ لا يرى لنفسه ثمنًا إلا الجنةَ.
أيها المؤمنون: إن علو الهِمَّة مدعاة إلى أن يضرب المرء في كل باب من أبواب الخير بسهم، وألَّا يغنيه قليل الخير عن كثيره، وهو شأن أرباب الكمال، كما جاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"(أخرجه مسلم).
لله هذه الهِمَّة البكرية، ومَنْ لها إلا لم يكن أبو بكر لها، رضي الله عن الصديق وأرضاه.
أيها المسلمون: هذا النموذج البكري إنما صُنِعَ على نور من كتاب الله، وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس ذلك بدعًا؛ فإن قراءة كتاب الله بالتدبر والتعقل شحذ للهمم، وإذكاء للقرائح، فكل آية من آياته تدعو إلى فضيلة، أو تحذر من رذيلة، فتنبعث النفس، وتتشوق إلى الامتثال، فتحيا فيها الهِمَّة العالية، وتشتعل جذوتها، قال بعض أهل العلم: "القرآن يملأ النفوس بعظم الهِمَّة، وهذا العِظَم هو الذي قذَف بأوليائه ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ، فأَتَوْا على عروش كانت ظالمة ونسفوها من وجه البسيطة نسفًا، ثم رفعوا لواء العدل وفجَّروا أنهارَ العلوم تفجيرًا، وإذا رأينا من بعض قرائه هممًا ضئيلةً، ونفوسًا خاملةً، فلأنهم لم يتدبروا آياته، ولم يتفهموا ولم يتفقهوا حكمه، القرآن هو الذي ربَّى الأمةَ وأدَّبَها، وزكَّى منها النفوسَ، وصفَّى القرائحَ، وأذكَى الفِطَنَ، وجلَّى المواهبَ، وأرهَف العزائمَ، وأعلى الهممَ، وقوَّى الإراداتِ، فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة الغنم رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأُمِّيَّة أعلامَ العلم والحكمة، وبهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوس بأصحابها، تفتح الآذان قبل البُلدان، وتمتلك بالعدل والإحسان الأرواح قبل الأشباح، ولكن سر القرآن ليس في هذا الحفظ الجاف فحسب، ولا في تلك التلاوة الشلاء، وإنما السر كل السر في تدبره وعقله وفهمه واتباعه، الاهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه" انتهى.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وبسُنَّة المختار على أبناء التراب، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمدًا يبلغ الأمل، ويبارك في العمل، أحمده -سبحانه- وهو للحمد أهل، وأصلي وأسلم على رسوله المبعوث بخير الملل، وعلى آله وصحبه ذوي الحلى والحلل، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد أيها المؤمنون: فإنَّ مِنْ أبلغِ بواعثِ علوِّ الهِمَّة في نفس المؤمن قِصَرَ الأملِ، وتذكُّرَ سرعة انقضاء الدنيا، فمتى علم العبد ذلك وأيقَنَه، توفَّرت همتُه على المعالي، واطَّرَح الصغائرَ، واستبَق الخيرات، وسارَع إلى بلوغ المكرمات.
قَصِّرِ الآمالَ في الدنيا تَفُزْ | فَدَلِيلُ العقلِ تقصيرُ الأملْ |
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"(أخرجه البخاري)، وزاد: "وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"، هذا الحديث -عباد الله- كما قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيِّئ جهازَه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال الله -تعالى- حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غَافِرٍ: 39]، وما أحسَنَ قولَ الإمام ابن القيم -رحمه الله- حين قال: "صدقُ التأهبِ للقاءِ اللهِ من أنفع مال العبد وأبلغه في حصول استقامته؛ فإنَّ مَنِ استعدَّ للقاء الله انقطع قلبُه عن الدنيا ومَطالِبِها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وَأَخْبَتَ قلبُه لله، وعكفت همتُه على الله، والمقصود أنَّ صدقَ التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره، ولا رب سواه" انتهى كلامه -رحمه الله-.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خيرته من خلقه، المرفوع ذِكْرُه مع ذِكْرِه في الأولى، والشافع المشفَّع في الأخرى؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم على أكرم رسلك وخاتم أنبيائك، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآب، وعنَّا معهم برحمتك يا كريم يا وهَّاب.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاءً سخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم ما سألناكَ من خير فأَعْطِنا، وما لم نسألك فابتَدِئْنا، وما قَصُرَتْ عنه آمالُنا وأعمالُنا من خيرَيِ الدنيا والآخرة فبَلِّغْنا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ودُورِنَا،، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم اجعل عمله في رضاه، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وهيئ له البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح الإسلام والمسلمين ولما فيه خير البلاد و العباد، يا من له الدنيا والآخرة، وإليه المعاد.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين والمضطهَدين والمظلومين في دينهم في كل مكان، اللهم كن لإخواننا في فلسطين، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم ارحم شهداءهم، واشف مرضاهم وجرحاهم، واخلفهم في أهليهم وعقبهم خيرًا يا الله.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على فضله ونعمه وآلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.