المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الزهد |
الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس، وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أمر بطاعته وأخبر أنها سبب النجاة والسرور، ونهى عن معصيته، وأخبر أنها سبب للهلاك والشرور، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، واغتنام هذه الدنيا، والتزود منها والمسارعة فيها إلى عمل الخيرات، وترك المنكرات، واعلموا -أيها الأحبة- أنه لا نجاة ولا فلاح إلا لمن جاهد نفسه واغتنم عمره في الصالحات.
أيها المسلمون: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، دار مصائب وشرور، لذاتها مشوبة بالكدر، عمارتها وإن حسُنت فهي إلى الخراب، وإقبالها إلى إدبار؛ فهل ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير والموجود إلا العدم، نسأل الله أن ينجينا من شرورها ويرزقنا خيرها.
واعلموا -أيها الإخوة- أنَّ الأصل في هذه الحياة المتاعب، والسرور فيها أمر طارئ، والله لم يرْضها لأوليائِه مستقرَّا، ولولا أنَّ الدنيا دارُ ابتلاءٍ، لم تكُنْ فيها الأمراض والأكدار، ولم يضِق العيشُ فيها على الأنبياء والأخيار، فآدمُ يُعاني المِحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوحٌ كذَّبهُ قومُه واستهزأوا به، وإبراهيمُ يُكابِدُ النار وذَبْحَ الولد، ويعقوبُ بكى حتى ذهب بصرُه، وموسى يُقاسي ظُلم فرعون، ويلقى من قومه المِحنَ، وعيسى ابن مريم عاش معدماً فقيراً، ومحمدٌ -صلى الله عليه وسلم- يُصابِرُ الفقْر، وقتلِ عمِّهِ حمزة، وهو منْ أحبِّ أقاربِه إليه، ونفورِ قومِهِ منهُ. وغير هؤلاء من الأنبياءِ والأولياءِ مما يطُول ذِكْرُهُ. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "الدنيا سجنُ المؤمنِ، وجنَّةُ الكافرِ" [رواه مسلم:2956]. ففي الدنيا سُجِن الصّالحون، وابتُلي العلماءُ العاملون، ونُغِّص على كبارِ الأولياءِ.
والمتأمل -أيها الإخوة- في كون الدنيا سجنًا يقف على حقائق من نور تضيء له طريقه في سيره إلى الله تعالى؛ فمن أهم أسباب شعور العبد بأنه مسجون في الدنيا أن من عرف الله تعالى بكماله وجلاله وجماله ضاقت عليه الدنيا بسعتها شوقاً إلى ربه، ومن أجل ذلك اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- الخروج من هذا السجن؛ فعن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "شَخَصَ بَصَرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا" [البخاري:3669].
ويفسر لنا هذا الحديث حديث آخر صريح في رغبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرب من الله وترك الدنيا، وأنها كالسجن يحجب أرواح الصالحين عن القرب من حياض القدس في جنات ونهر، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ-، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ" [البخاري:3904].
فها هو -صلى الله عليه وسلم- تعرض عليه الدنيا وزهرتها، وهو يهرب منها ويفر إلى الله تعالى، ولسان حاله -صلى الله عليه وسلم-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه:84].
أيها المسلمون: إن من عرف الله -عزَّ وجلَّ- قرت عينه بالله، وقرت عينه بالموت، وقرت به كل عين، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق. ومن عرف الله -تبارك وتعالى- لم يبق له رغبة فيما سواه، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وتلذذ بذكره وعبادته، وخافه ورجاه، وتوكل عليه وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجله وعظمه على قدر معرفته به، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة" [البخاري:2961].
واستمع يا من أحببت الدنيا وزينتها -وكلنا ذلك الرجل-، يا من ركنت إليها، وقاتلت من أجلها، واهتممت بالمناصب والشياخة، والكراسي والرياسة، استمع لهذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا بن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط" [صحيح مسلم 2807]، فتخيل لذات الدنيا كلها تضيع بغمسة في جهنم، وتخيل تعب الصالحين في ذات الله -سبحانه- وعظيم تضحياتهم يضيع بغمسة في الآخرة؛ فأين أنت من هؤلاء.
عباد الله: وإذا كانت الدنيا سجنًا فلا بد للناس من هذا السجن؛ إذ هو على الحقيقة اختبار وامتحان لهم، وهذا الأمر ليس حديث اليوم، بل هو قديم قدم البشرية؛ فمن أول يوم للخليقة على هذه الأرض بيّن الله لهم قواعد الدنيا، فقال -سبحانه-: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:123-126]، فمن امتثل فاز، ومن فرط خاب، ولا يظلم ربك أحدًا.
فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ" [مسلم:2956]. ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامة، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم.
فالناس رجلان: إما خارج من السجن، وإما ذاهب إلى السجن. وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها، وصدق الشاعر:
طُبِعَتْ عَلَى كَدْرٍ وَأَنْتَ | تُرِيدُهَا صَفْواً مِنَ الأَقْذاءِ وَالأَكْدَارِ |
أيها الإخوة: ولما كانت الدنيا سجنًا على الصالحين، كانوا أشد الناس ابتلاء فيها؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء". قلت: ثم من؟ قال: "الصالحون إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء" [ابن ماجه:4024، وصححه الألباني].
فما عليك -أيها المسجون في الدنيا- إلا أن تتأسى بأنبياء الله، فتصبر على الطاعة فتؤديها وتصبر عن الحرام فتجتنبه، وتحتسب الأجر عند الله -عز وجل-.
ولا تجزع -يا عبد الله- من سجن الدنيا، فقدرك مكتوب، وقد فرغ الله إلى كل عبد من عمله وأجله ورزقه ومصيره، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ" [البخاري:3332، ومسلم:2643]، فمهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها.
عباد الله: وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة، وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان، إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له عَلَم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب.
أيها الإخوة: وعلى عكس سجن الدنيا، فقد أخفى الله -عزَّ وجلَّ- عن العبد عمره، ولم يطلعه على أجله؛ رحمةً بالعباد، فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة. وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟!.
اللهم أصلح لنا قلوبنا، واجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خالق الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الإخوة- بتقوى الله والحذر من الاغترار بالدنيا والركون إليها.
واعلموا -أيها الفضلاء- أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد؛ إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس، وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء، ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها؛ كما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ" قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ" [البخاري:6512].
أيها الإخوة: اعلموا -هداني الله وإياكم إلى رضوانه- أن السجن الدنيوي لابد له من نهاية، ولا بد من مغادرة هذه الدنيا، وأن الحياة مهما طالت فهي قصيرة، وأن بعد الحياة موتًا، ومن الناس من أحب الموت ومنهم من كرهه؛ إما لضعف محبته لله، وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا، أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.
ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى، فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة، ومما يوضح ذلك ما صح عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ". فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ؛ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ؛ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" [مسلم:2684].
المهم -يا عبد الله- كيف تخرج من هذا السجن، هل تخرج إلى جنات ونهر وسعادة وسرور، أم الأخرى والعياذ بالله، وصدق من قال:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً | والناس حولك يضحكون سروراً |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا | بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً |
إن سر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ربه في حواره مع النمرود بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد، وهي الإحياء والإماتة، وظل يحاوره حتى بُهِتَ الذي كفر، نسأل الله السلامة والعافية.
واحذر -يا عبد الله- أن تكون ممن يريد الدنيا بعمله، فإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً فلتنظر ما قدمت لغدك، وأخلص العمل لربك، وانظر ماذا تريد، وحاسب نفسك هل تريد أن تبتعد عن الله والدار الآخرة، وأن تحصر همك كله في هذه الأرض؟! احذر من أن تلهيك الدنيا عن الآخرة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آلعمران:145]، فشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.
فالذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام والبهائم، ثم يموت خاسراً في موعده المضروب بأجله المكتوب. أما الذين يدركون نعمة الإيمان فيحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه، وأعلى مكانه، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، وينهضون بتبعات الإيمان، ثم يموت هذا الإيمان رابحاً مطمئناً في موعده المضروب، وأجله المكتوب.
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت وهي لا تملكه إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه اختيار الدنيا أو الآخرة، وتنال في الآخرة جزاء ما تختار.
عباد الله : إياكم والاغترار بالدنيا فإنها ظل زائل، تضحك مرة، وتبكي مرات، تفرح مرة، وتحزن مرات، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.