العربية
المؤلف | زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
وَالْفُتُورُ -فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَدْنَاهَا- مَنْزِلَةٌ مَكْرُوهَةٌ؛ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ فُتُورُهُ فِي دَائِرَةِ النَّوَافِلِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، أَوْ مُزَاوَلَةِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَلَامَسَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ قَارَفَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ حَالَتُهُ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ حِينَهَا تَسْمِيَتُهَا بِالْفُتُورِ أَوْ بِالضَّعْفِ؛ إِنَّمَا التَّشْخِيصُ الْأَمْثَلُ لِحَالَتِهِ أَنْ نُسَمِّيَهَا انْتِكَاسَةً وَزَيْغًا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَدَى مَنْ شَاءَ لِدِينِهِ بِفَضْلِهِ، وَصَرَفَ عَنْهُ مَنْ شَاءَ بِعَدْلِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَأَفْضَلِ رُسُلِهِ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَرَاقِبُوهُ، وَأَطِيعُوهُ وَلَا تَعْصُوهُ؛ فَمَنِ اتَّقَاهُ نَجًىْ، وَأَكْرَمَهُ بِجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَمَنْ تَعَدَّى حُدُودَهُ فَعَلَى نَفْسِهِ جَنَى، وَفِي النَّارِ هَوَى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَعْدَ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ قَضَاهَا الْمُسْلِمُونَ مَعَ شَهْرِ الْكَرَائِمِ وَالْفَضَائِلِ وَمَحَطَّةِ التَّزَوُّدِ وَالتَّمَوُّلِ، وَمَيْدَانِ التَّسَابُقِ وَالتَّنَافُسِ؛ فَكَانَ مِنَّا الْمُكْثِرُ وَمِنَّا الْمُقِلُّ؛ بَيْدَ أَنَّ مَظَاهِرَ ذَلِكَ النَّشَاطِ أَوْ تِلْكُمُ التَّغَيُّرَاتِ لَمْ تَكُنْ بِغَرِيبَةٍ عَلَيْنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَوَاسِمَ فَاضِلَةٍ كَرَمَضَانَ وَأَيَّامِ الْحَجِّ وَشَعْبَانَ وَالْمُحَرَّمِ وَغَيْرِهَا؛ فَيَتَحَوَّلُ الْكَسَلُ إِلَى النَّشَاطِ، وَالْعَجْزُ إِلَى هِمَّةٍ، وَالْغَفْلَةُ إِلَى يَقَظَةٍ، وَنَلْمِسُ تَوْبَةَ الْمُفَرِّطِ وَإِقْلَاعَ الْعَاصِي؛ إِنَّمَا الْغَرِيبُ -يَا كِرَامُ- أَنْ تَنْتَهِيَ تِلْكَ الْمَوَاسِمُ وَتَنْقَضِيَ تِلْكَ الْمَحَطَّاتُ الْإِيمَانِيَّةُ كَرَمَضَانَ فَنَتَفَاجَأُ بِعَوْدَةِ الْكَثِيرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا؛ مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَرَدَاءَةِ الْمَآلِ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَا نُسَمِّيهِ بِالْفُتُورِ وَالضَّعْفِ وَالْقُصُورِ.
وَالْفُتُورُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- هُوَ التَّرَاخِي بَعْدَ الْعَزْمِ، وَالضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ، وَالْكَسَلُ بَعْدَ النَّشَاطِ. وَالْفُتُورُ دَاءٌ عُضَالٌ، يَجْتَاحُ جَمِيعَ النُّفُوسِ وَيُدَاخِلُ كُلَّ شَخْصٍ، وَهُوَ صِفَةٌ ذَمِيمَةٌ نَزَّهَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ عَنْهَا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 20]، وَلَمَّا حَمَّلَ اللَّهُ مُوسَى رِسَالَةً إِلَى فِرْعَوْنَ أَرْشَدَهُ إِلَى ذِكْرِهِ وَأَلَّا يَفْتُرَ عَنْهُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)[طه: 42-43].
وَالْفُتُورُ وَالْكَسَلُ وَالْعَجْزُ أَمْرَاضٌ تَعَوَّذَ مِنْهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كَانَ يَتَعَوَّذُ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ، وَالْمَغْرَمِ"(الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
وَالْفُتُورُ -فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَدْنَاهَا- مَنْزِلَةٌ مَكْرُوهَةٌ؛ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ فُتُورُهُ فِي دَائِرَةِ النَّوَافِلِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، أَوْ مُزَاوَلَةِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَلَامَسَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ قَارَفَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ حَالَتُهُ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ حِينَهَا تَسْمِيَتُهَا بِالْفُتُورِ أَوْ بِالضَّعْفِ؛ إِنَّمَا التَّشْخِيصُ الْأَمْثَلُ لِحَالَتِهِ أَنْ نُسَمِّيَهَا انْتِكَاسَةً وَزَيْغًا، عِيَاذًا بِاللَّهِ -تَعَالَى-.
وَالنَّاسُ فِي الْفُتُورِ صُوَرٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَالنَّاظِرُ فِي أَحْوَالِهِمْ وَوَاقِعِهِمْ تَشْخِيصًا وَمُعَالَجَةً لَا تَتَبُّعًا وَتَجَسُّسًا، يَجِدُ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ أَصْنَافٍ ثَلَاثَةٍ:
فَالْأَوَّلُ صِنْفٌ يَصِحُّ وَصْفُ حَالَتِهِمْ بِالضَّعْفِ وَالْفُتُورِ؛ كَوْنُهُمْ لَمْ يَعُودُوا فِي نَشَاطِهِمْ كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ إِلَى حَدٍّ مَا؛ بِحُكْمِ قَدَاسَةِ رَمَضَانَ وَحُرْمَتِهِ وَبَرَكَةِ شَهْرِهِ وَنَفَحَاتِهِ، وَمَا يَكْتَنِفُهُ مِنْ لَيْلَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
وَهَذِهِ الْحَالُ تَعْرِضُ لِلصَّالِحِينَ فَيَغْلِبُونَهَا تَارَةً وَتَغْلِبُهُمْ أُخْرَى؛ إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَهَا لَا يَقَعُونَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَلَا تَفْتَقِدُهُمُ الْوَاجِبَاتُ؛ بَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْخَيْرِ طَوَالَ عَامِهِ؛ لَكِنَّهُ فِي رَمَضَانَ أَشَدُّ مُوَاظَبَةً وَأَكْثَرُ حِرْصًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَرِيبٍ؛ فَحَتَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِيهِ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ قِيَاسًا بِغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَتَبُ يَلْحَقُهُمْ عَلَى فُتُورِهِمْ؛ كَوْنُهُمْ حَرُمُوا أَنْفُسَهُمْ مَنَازِلَ عَالِيَةً وَدَرَجَاتٍ رَفِيعَةً؛ فَالْإِسْلَامُ يَحُثُّ عَلَى بُلُوغِ الْكَمَالِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ؛ وَمِمَّا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ".
وَلِلْعِلْمِ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا مِنَ السَّابِقِينَ بِالْخَيْرَاتِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ مُقْتَصِدُونَ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي هُوَ صِنْفٌ لُوحِظَ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالتَّقْصِيرُ؛ فَتَرَكَ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَأَخَّرَ عَنِ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَفِي الْمُقَابِلِ اسْتَخَفَّ بِالْمَكْرُوهَاتِ وَتَسَاهَلَ فِي الْمُنْكَرَاتِ وَدَنَتْ هِمَّتُهُ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، وَحِفْظِهِ لِلْأَوْقَاتِ، وَهَذَا الصِّنْفُ عَلَى خَطَرٍ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْ نَفْسَهُ وَيَحْزِمْ أَمْرَهُ، وَإِلَّا فَسَتُلْقِي بِهِ الْأَيَّامُ إِلَى حَالٍ أَسْوَأَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهَا، وَهِيَ حَالَةُ الِانْتِكَاسَةِ وَرُبَّمَا خُتِمَ لَهُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَعْصِمَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَيُرْشِدَهُ إِلَيْهِ.
حَالَةُ الصِّنْفِ الثَّالِثِ؛ وَهُوَ الَّذِي ارْتَكَسَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَنَكَصَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَانْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَهَذَا أَسْوَأُ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ حَالًا، وَشَرُّهَا خَاتِمَةً، وَأَقْبَحُهَا مُنْقَلَبًا، وَهِيَ حَالَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَصِفَاتُهُمْ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ؛ فَقَالَ: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)[التَّوْبَةِ: 54]، وَهُوَ مَا كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
عِبَادَ اللَّهِ: وَلَيْسَ مَعِيبًا فِي الْعَبْدِ نَشَاطُهُ فِي الْمَوَاسِمِ الْفَاضِلَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ حَالًا أَوْ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا؛ بَلْ هَذَا مَطْلَبُ الشَّرْعِ، وَهُوَ عَيْنُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ"، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ لَهُ شِدَّةٌ، وَنَشَاطٌ، وَحِدَّةٌ، وَاجْتِهَادٌ عَظِيمٌ فِي الْعِبَادَةِ، ثُمَّ لَابُدَّ مِنْ فُتُورٍ فِي ذَلِكَ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْمُؤْمِنُ يَحْرِصُ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنَ الْخَيْرِ حَتَّى يَرِدَ الْجَنَّةَ؛ فَهُوَ سَبَّاقٌ لِلْخَيْرَاتِ، يُجَانِبُ الْمُنْكَرَاتِ؛ لَا يَتَّصِفُ بِالْفُتُورِ وَلَا يَعْرِفُ التَّوَانِيَ؛ وَصَفَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آلِ عِمْرَانَ: 191].
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ؛ فَإِنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ خَطَأً فَمِنِّي وَالشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ، وَلِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَمَنْ بِهُدَاهُ اهْتَدَى وَالتَّابِعِينَ سَرْمَدِيًّا أَبَدًا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْفُتُورُ خَلَّةٌ سَيِّئَةٌ، تُفْقِدُ الْمُتَّصِفَ بِهَا خَيْرًا كَثِيرًا؛ لَعَلَّ مِنْ أَهَمِّهَا دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، وَالَّتِي لَا يَصِلُهَا إِلَّا مُسَارِعٌ فِي الْخَيْرَاتِ، مُدَاوِمٌ عَلَى النَّوَافِلِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، تَقِيٌّ فِي النَّهَارِ، وَرِعٌ فِي الْخَلَوَاتِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ...".
وَلَا يَزَالُ الْفُتُورُ بِصَاحِبِهِ يُقْعِدُهُ عَنِ الطَّاعَاتِ حَتَّى يَحْرِمَهُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ فِي الْجَنَّاتِ، فَالْفُتُورُ قُصُورٌ، وَالتَّفْرِيطُ خَسَارَةٌ وَدُحُورٌ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ دُعَاءٌ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ؛ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: "لَا يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ -تَعَالَى- فِيهَا".
عِبَادَ اللَّهِ: وَالْفُتُورُ دَاءٌ يَنْتَشِرُ فِي الصَّالِحِينَ وَمَنْ هُوَ دُونَهُمْ، وَدَوَاؤُهُ مُمْكِنٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي شَرَعَ لَنَا الْإِسْلَامُ التَّدَاوِيَ بِهَا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ"، وَمَنْ أُصِيبَ بِهَذَا الدَّاءِ فَعَلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ لِأَخْذِ التَّحْصِينِ الْفَاعِلِ وَالْعِلَاجِ النَّاجِعِ:
وَأَهَمُّهَا: دُعَاءُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ الْهَادِي وَالْمُعِينُ؛ دُعَاؤُهُ أَنْ يُثَبِّتَكَ عَلَى الْهُدَى وَيُعِينَكَ عَلَى الْخَيْرِ وَأَنْ يَقْبِضَكَ عَلَيْهِ، فَهَذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مَنْ هُوَ فِي الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، وَلَمَّا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا وَبِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهُمَا كَمَا يَشَاءُ".
قِرَاءَةُ سِيَرِ الثَّابِتِينَ؛ فَبِرَغْمِ الْفِتَنِ الَّتِي وَاجَهَتْهُمْ لَكِنَّهَا لَمْ تُغَيِّرْ لَهُمْ مَبْدَأً، وَبِرَغْمِ الْعَوَاصِفِ الَّتِي قَابَلَتْهُمْ لَكِنَّهَا لَمْ تَكْسِرْ لَهُمْ شِرَاعًا، فَلَمْ تَزَلْ أَقْدَامُهُمْ رَاسِخَةً فِي الطَّرِيقِ حَتَّى وَافَتْهُمُ الْمَنِيَّةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَصَارُوا مَثَلًا لِلْعَالَمِينَ؛ فَقِرَاءَةُ سِيَرِ هَؤُلَاءِ أَنْفَعُ لِإِيمَانِ الْعَبْدِ وَأَدْعَى لِثَبَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هُودٍ: 120].
وَمَنْ أُصِيبُوا بِالْفُتُورِ وَلَمْ يُقَاوِمُوهُ حَتَّى تَجَذَّرَ فِيهِمْ أَوْرَدَهُمْ مَسَالِكَ الرَّدَى، وَانْتَهَى بِهِمْ إِلَى النُّكُوصِ عَنِ الْهُدَى، وَالزَّيْغِ عَنِ الصِّرَاطِ، فَخُتِمَ لَهُمْ بِسُوءٍ، لَنَا فِيهِمْ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ؛ قَالَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 25].
الرُّفْقَةُ الصَّالِحَةُ، وَهِيَ الْحِصْنُ الْحَصِينُ لِدَوَامِ صَلَاحِ الْمَرْءِ وَاسْتِقَامَتِهِ، وَكَمْ حَثَّ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَيْهَا، وَمِمَّا قَالَهُ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"؛ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَنَكَبَّ الصِّرَاطَ وَانْحَرَفَ عَنْ مَسَارَاتِ الْهُدَى كَانَ سَبَبُهُ الرُّفْقَةَ السَّيِّئَةَ.
إِذَا كُنْتُ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ | وَلَا تَصْحَبِ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي |
وَمِنْ عِلَاجِ الْفُتُورِ تَرْوِيضُ النَّفْسِ وَمُرَاعَاةُ أَحْوَالِهَا وَقُدُرَاتِهَا وَطَبِيعَتِهَا؛ فَإِنَّ قَوْمًا أَخَذُوا بِالْعَزَائِمِ دَائِمًا، وَحَرَصُوا عَلَى الْحَدِّ الْأَعْلَى فِي كُلِّ طَاعَةٍ فَأَثْقَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ فَانْتَهَى بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى التَّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَمِنْ هُنَا جَاءَ التَّحْذِيرُ النَّبَوِيُّ مِنَ التَّشَدُّدِ لِعِلْمِهِ بِمَآلَاتِهِ؛ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنْ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيَشُدُّهُ إِلَيْهَا، ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ؛ فَمَنْ أَدْرَكَ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَدْنُو مِنْ أَجَلِهِ وَيَقْتَرِبُ مِنْ حَتْفِهِ، وَبِالتَّالِي يَقْتَرِبُ مِنْ حِسَابِهِ؛ وَمِنْ ثَمَّ جَزَائِهِ جَنَّةً أَوْ نَارًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُهُ يَقَظَةً دَائِمَةً وَنَشَاطًا مُسْتَمِرًّا؛ خَشْيَةَ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ سَاعَةٌ تَكُونُ أُمْنِيَتُهُ فِيهَا؛ (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[الْمُؤْمِنُونَ: 99-100].
عِبَادَ اللَّهِ: مَا أَحْسَنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ بِوَصِيَّةِ فَارُوقِ الْأُمَّةِ وَمُلْهِمِهَا حَيْثُ يَقُولُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-: "إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا؛ فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَخُذُوهَا بِالنَّوَافِلِ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ فَأَلْزِمُوهَا الْفَرَائِضَ".
اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَحَبِّبْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.
اللَّهُمَّ لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
اللَّهُمَّ هَيِّئْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ، يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ، وَيُهْدَى فِيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِكَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَاخْذُلِ الْكَفَرَةَ وَالْمُلْحِدِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
عِبَادُ اللَّهِ: صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاتَّبَعَ هُدَاهُ.
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ...