الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبدالله الجهني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه |
واعلموا أن العبودة لله أعلى المقامات، وأشرف المنازل، اختارها نبيُّنا الكريم -عليه الصلاة والسلام- على غيرها، وكفى بالعبودية شرفًا ورفعةً أن الله نادى بها عبادَه فيما مضى في الحديث القدسي عشرَ مرات، وفي عدة مواضع من كتابه الكريم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الواحد القهَّار، العزيز الغفار، مُكوِّر الليل على النهار، تذكرةً لأولي القلوب والأبصار، وتبصرةً لذوي الألباب والاعتبار، الذي أيقَظ مِنْ خَلْقِه مَنِ اصطفاه، فزهَّدَهم في هذه الدار، وشغَلَهم بمراقَبة وإدامة الأفكار، ومُلازَمة الاتعاظ والأذكار، ووفَّقَهم للدأب في طاعته، والتأهب لدار القرار، والحذر ممَّا يُسخِطه ويُوجِب دارَ البوار، والمحافَظة على ذلك مع تغايُر الأحوال والأطوار، أحمده أبلغَ حمد وأزكاه، وأشملَه وأنماه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، البَرُّ الكريمُ، الرؤوفُ الرحيمُ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الهادي إلى صراط مستقيم، والداعي إلى دين قويم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر النبيين، وكل آله وسائر الصالحين.
أما بعدُ: فاتقوا ربكم عباد الله، وتوبوا إليه؛ فإن الله يحب التوابين، واستغفِروه من ذنوبكم، فإنه خيرُ الغافرينَ، توبوا إلى ربكم مخلصينَ له، بالإقلاع عن المعاصي، والندم على فعلها، والعزم على ألَّا تعودوا إليها، فهذه هي التوبة النصوح، التي أُمِرتُم بها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[التَّحْرِيمِ: 8].
أيها المسلمون: من مشكاة النبوة، حديث قدسي عظيم، قد تضمَّن قواعد الدين العظيمة، في العلوم والأعمال، والأصول والفروع، يرى العلماء أنه جامع شامل يبيِّن سعةَ فضلِ اللهِ -تبارك وتعالى- ورحمته وعطفه بعباده، وحلمه وكرمه، وما لا يُحصى من أنواع الفضل والإحسان والرأفة والرحمة والامتنان، وله قدر ومكانة، عند سلف الأمة بإفراده في مصنَّفاتهم بالشرح والتعليق، قال فيه الإمام أحمد -رحمه الله-: "هو أشرفُ حديث عند أهل الشام"، وكان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله- إذا حدَّث به جثا على ركبتيه؛ تعظيمًا وإجلالًا له.
أخرَج مسلم في صحيحه، عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-، أنه قال: "عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
حديث قدسي جليل يضيء لنا آفاق الحياة، ويرشدنا إلى سبيل النجاة، ويغرس الأمل في قلوب الحيارى، الذين أنساهم الشيطانُ أنفسَهم وأنساهم استحضارَ الشكر على نِعَم الله -تبارك وتعالى-، التي لا تُعَدّ ولا تُحصى.
اللهم إنَّا عبادُكَ، بنو عبادِكَ، بنو إمائك، نواصينا بيدك، نسألك يا الله، أن ترحمنا، فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، ودبرنا فإنا لا نحسن التدبير، وخذ بنواصينا إليك، ودُلَّنا بكَ عليكَ، يا خيرَ مسئول، اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، وعامِلْنا بما أنتَ أهلُه، أنتَ أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة.
قلتُ ما سمعتُم، وأستغفر اللهَ العظيمَ لي ولكم من كل ذنب فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن خير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، واعلموا أن العبودة لله أعلى المقامات، وأشرف المنازل، اختارها نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- على غيرها، وكفى بالعبودية شرفًا ورفعةً أن الله نادى بها عباده فيما مضى في الحديث القدسي عشر مرات، وفي عدة مواضع من كتابه الكريم، فاتقوا الله -أيها المسلمون- وراقبوه، وعظموه حق التعظيم، وأنزلوا به حاجاتكم، فبيده مقاليد الأمور، وعنده خزائن السماوات والأرض؛ والذين كفروا بربهم يعدلون.
ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]. وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات".
اللهم صلواتك ورحماتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-، عبدك ورسولك إمام الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقامًا محموداً يغبطه به الأولون والآخِرون، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واخذل اللهم مَنْ خذَل الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا سخاء رخاء، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، واحفظ أطباءنا وأعوانَهم، وسدِّدْهم وارفع عنا هذا الوباءَ يا أرحم الراحمين، اللهم انصر جنودنا على الحدود، اللهم سدِّد رميَهم، وثبِّتْ أقدامَهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعينَ.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقن دماءهم، وآمِنْهُم في ديارهم، وأرغد عيشهم، واكبد عدوهم، اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين لكل خير وصلاح.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.