الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
في قصة يوسفَ وإخوتِه آيات لأولي الألباب، دارت رحى أحداثِها سنينَ طويلة، بدأت منذ نعومةِ أظفاره إلى اعتلائه عرشَ الملك، لاقى من الشدة أشدها، ومن العنت أعنته، وهو الكريم ابنُ الكريم ابنِ الكريم ابنِ الكريم....
الخطبة الأولى:
تناول الوحي موضوعاتٍ ثلاثةً هامةً: أولاها: توحيد الله، وثانيها: بيان الأحكام الشرعية، وثالثها: القصص القرآني.
والقصص القرآني فيه عبرةٌ، وعظةٌ، وتسليةٌ للقلوب، وذِكْرٌ لأحوال الأمم الغابرة، قال -سبحانه-: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هُود: 120].
ولنا أن نأخذ وقفات من سورة يوسف -عليه السلام- فقد روى البيهقي -رحمه الله-: "أن طائفة من اليهود حين سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلو هذه السورةَ أسلموا لموافقتها ما عندهم".
وكان عمر -رضي الله عنه- يقرأ هذه السورةَ ويبكي فيها كثيرًا، قال الله -عز وجل- في بداية السورة: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)[يُوسُف: 3].
والمقصود بأحسن القصص: قصةُ يوسفَ -عليه السلام- وغيرُها مما قصه الله علينا من قصص المرسلين، وَسُميّت أحسن القصص؟ لأنه ليس في القرآن قصةٌ تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة، وقيل: لامتداد الأوقات بين مبتدئها ومنتهاها، وقيل: لحسن محاورة يوسفَ وإخوتهِ، وصبرِه على أذاهم، وإِغْضَائِهِ عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء، وكرمِه في العفو.
وقيل: لأن فيها ذكرَ الأنبياء والصالحين، والملائكةِ والشياطين، والإنسِ والجن، والأنعامِ والطير، وسِيرِ الملوكِ والمماليك، والتجار، والعلماءِ والجهال، والرجالِ، والنساءِ ومكرِهن وحِيَلِهن، وفيها أيضًا ذكرُ التوحيدِ والفقهِ والسِّيَر، وتعبيرِ الرؤيا والسياسة، والمعاشرةِ وتدبيرِ المعاش، فصارت أحسنَ القصص؛ لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا.
لذا فقد اشتملت على معان عديدة منها:
الدرس الأول: حصلت أحداث لنبي الله يوسف -عليه السلام- مع إخوته تبين (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[يُوسُف: 5]، وأنه -عز وجل-: (عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[يُوسُف: 19]، و(إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يُوسُف: 23]، وَأَنَّه -عز وجل- (لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)[يُوسُف: 52].
وأن كل من عمل صالحًا فإن الله: (لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يُوسُف: 90]، و(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)[يُوسُف: 88]، وأن كل شدة وكرب مهما كبر فإن قلب المؤمن متعلق بمولاه (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يُوسُف: 87].
وأن من يتقي الله بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المصائب فإن هذا من الإحسان الذي لا يضيّع الله أجر عامله و(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يُوسُف: 90].
في قصة يوسفَ وإخوتِه آيات لأولي الألباب، دارت رحى أحداثِها سنينَ طويلة، بدأت منذ نعومةِ أظفاره إلى اعتلائه عرشَ الملك، لاقى من الشدة أشدها، ومن العنت أعنته، وهو الكريم ابنُ الكريم ابنِ الكريم ابنِ الكريم، "فقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم"، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف، نبيُّ الله، ابنُ نبي الله، ابنِ نبي الله، ابنِ خليل الله"(رواه البخاري)، فهو يوسف بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ -عليهم السلام-.
حيث إن مكرَ إخوةِ يوسفَ بيوسف، وإلقاءَه في غيابة الجب، مكرٌ ما أسرعه من زوال: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)[يُوسُف: 102]، فمكرهم كبَّارٌ، ووقاه الله سيئاتِ ما مكروا، فما أسرعها من سنين ويأتون ليوسف وهم جياع أذلة، وصدق الله حين قال: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)[فَاطِر: 43]، أي: وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسِهم دون غيرهم.
الدرس الثاني: أن كذبَ إخوةِ يوسف على أبيهم وإن تعضَّد بالبرهان، فإنه لم يدم طويلاً حتى أظهره الله لأبيهم، فقميص يوسفَ ملطخ بالدم، وهو سليم لم يمزق بمخالب الذئب وأنيابه، لذا قال يعقوب -عليه السلام-: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يُوسُف: 18].
والكذب ريبة، فقد طلبوا بصنيعهم القربَ من قلب والدهم، وأن يخلوَ لهم وجهُ أبيهم، لكنَّ هذا الفعلَ قُوبِلَ مباشرةً بالتكذيب، وجرّ عليهم ويلاتٍ في الآجل والعاجل، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لأَن يضعنَي الصدق -وقلّما يضع- أحبُّ إليَّ من أن يرفعنيَ الكذب -وقلما يفعل-".
الدرس الثالث: أن في مكث يوسف -عليه السلام- في الجب يُذكِّر بمكث يونسَ -عليه السلام- في بطن الحوت، وما هو إلا ابتلاء: (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)[يُوسُف: 15]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أوحى الله إليه أنه لا بد من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن أخوتَك بصنيعهم هذا وأنت عزيز، وهم محتاجون إليك خائفون منك (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)[يُوسُف: 15]".
الدرس الرابع: أن الله -سبحانه وتعالى- لطيف حكيم خبير، فمهما حصل للعبد من ضعف وشدة إلا أن الله لطيف بعباده في قضائه، حيث أوصى عزيزُ مصرَ بيوسفَ خيرًا (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)[يُوسُف: 21].
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أفرس الناس ثلاثة: عزيزُ مِصْرَ حين قال لامرأته أكرمي مثواه، والمرأةُ التي قالت لأبيها عن موسى -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)[القَصَص: 26]، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- على الناس".
الدرس الخامس: أن الله ثبَّت قلبَ يوسفَ -عليه السلام- مع أن امرأةَ العزيزِ تهيأت ووفَّرت أسباب الفاحشة، ويوسفُ -عليه السلام- شابٌ عزب وغريبٌ، وما همَّ يوسف به إنما هي خطراتُ حديثِ النفس، وقيل: همَّ بضربها، وقيل: تمناها زوجة.
وأما البرهان في قوله: (لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)[يُوسُف: 24]، فالذي رآه قيل: صورة أبيه يعقوبَ عاضًا على أصبعه بفمه، وقيل: رأى خيال المَلِك يعني سيدَه، وقيل: البرهان عندما رفع رأسه إلى سقف البيت فإذا كتاب في حائط البيت، (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً)[الإسرَاء: 32]، قال ابن جرير: "والصواب أن يقال: إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان به، وجائز أن يكون صورة أبيه أو الملك أو ما رآه مكتوبًا".
الدرس السادس: أن يوسف -عليه السلام- دعا إلى توحيد الله وعبادته وهو في السجن عند سؤال صاحبيه عن رؤياهما حين قال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يُوسُف: 39-40]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "لأن نفوسهما مُعظِّمةٌ له، منبعثةٌ على تلقّي ما يقولُ بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه".
وهذا دأب الصالحين في استغلال أوقاتهم في كل مكان، فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما دخل الحبس، وجد المساجين مشغولين بأنواعٍ من اللعب يتلهون بها عما هم فيه، كالشطرنج والنَّرد، فأنكر الشيخ عليهم ذلك، وأمرهم بملازمة الصلاة والتوجّه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيحِ، والاستغفارِ، والدعاءِ، وعلَّمهم من السُّنَّة ما يحتاجون، ورغّبهم في أعمال الخير، وحضّهم على ذلك، حتى صار الحبسُ بالاشتغال بالعلم والدين خيرًا من كثيرٍ من الزوايا والرُّبط والمدارس، وصار خلقٌ من المحابيس إذا أُطْلِقُوا يختارون الإقامة عنده.
وفَّقنا الله لطاعته، وجنبنا معصيته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
بَيْن قصةِ يوسفَ -عليه السلام- وسيرةِ رسولنا -صلى الله عليه وسلم- شبهٌ كبير، فكما عادى إخوةُ يوسفَ يوسف، فقد عادى مَن عادى مِن الأقارب والعشيرة نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-.
وكما ألقوا يوسف في الجب وواروه عن أبيهم، فقد أخرجوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة، حيث المولدُ والنشأة، وحاصروه في شِعْب من شِعاب مكةَ ثلاثَ سنين.
وكما عفا يوسفُ -عليه السلام- عن إخوته عندما مُكِّن في الأرض بقوله: (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يُوسُف: 92]، فقد أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعرَاف: 199]، ورَغَّب فيه (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشّورى: 40].
اللهم احفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.