الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | مقبل بن حمد المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
لقد كانت البعوضة أوَّلَ دابَّة ذكرت في كتاب الله وأصغرَها، وفي المقابل كان الفيل آخرَ دابَّة ذكر وأكبرَها، والعامل المشترك بيْنهما أنَّهما يملكان خرطومًا يُساعدهما في الغذاء، وقد خلق الله في البعوضة على صِغَر حجْمِها جميعَ ما خلق في الفيل مع كبره، فسُبحان الَّذي أتْقن كلَّ شيء!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكبيرِ المتعال، ذي العزَّة والعظمة والجلال، أحمده تعالى وأشكرُه على جزيل النَّوال، وأتوب إليْه وأستغْفِره على كلِّ حال، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، مَن يهد الله فلا مضلَّ له ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له من الضلال، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسولُه كريم الأخلاق شريف الخصال، صلَّى الله عليْه وعلى آلِه وأصحابه ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله -عباد الله-، اتَّقوا الله الرَّقيب، واعملوا لأمانِكم في اليوم العَصيب المهيب: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
إخوة الإسلام: إنَّ في القرآن الكريم لعبرةً لِمن تذكَّر، وعِظة لمن تدبَّر، حوى قصصًا عجيبة وافرة الدروس، وأخبارًا وأحكامًا وأمثالاً تزكو بها النفوس!.
ولنا اليوم وقفة مستفيضة مع آيةٍ من آياته، ذكر الله بها أصغر وأوَّلَ دابَّة ذكرتْ في القرآن، هي دابَّة تبدو لنا تافهة حقيرة، ولكنَّ الله -سبحانه- أوْدع فيها من آياتِه وقدرته ما تتحيَّر بها العقول، دابَّة نتبرَّم منها كثيرًا ونشتكي لسْعَها طويلا.
لا يقرُّ لنا قرارٌ في المكان الَّذي تكثُر فيه، نَجتهِد لمكافحتها، وتُصْرَف الملايين في الدّعاية لتلك المكافِحَات لها، ذكرها الله في كتابه ردًّا على المشركين الَّذين استنكروا ذِكْر الذباب والعنكبوت في القرآن.
رُوي عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: "لمَّا ذكر الله آلهةَ المشْركين، فقال: (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج: 73].
وذكَرَ كيْد الآلهة فجعله كبيْتِ العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القُرآن على محمَّد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية.
وقال الحسن وقتادة: "لمَّا ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرَب للمشركين به المثل، ضحِكَت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فكأنَّهما يروْن التَّمثيل بها عيبًا، فأنزل الله الآية: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ) [البقرة: 26].
إنَّها البعوضة الَّتي قال عنها قتادة: "البعوضة أضعف ما خلَق الله".
لقد كانت البعوضة أوَّلَ دابَّة ذكرت في كتاب الله وأصغرَها، وفي المقابل كان الفيل آخرَ دابَّة ذكر وأكبرَها، والعامل المشترك بيْنهما أنَّهما يملكان خرطومًا يُساعدهما في الغذاء، وقد خلق الله في البعوضة على صِغَر حجْمِها جميعَ ما خلق في الفيل مع كبره، فسُبحان الَّذي أتْقن كلَّ شيء!.
عباد الله: إنَّ هذه البعوضة الصَّغيرة جند من جند الله -تعالى-، التي لا يعلمُها غيره، ذكرَها الله لقومٍ لا يُدْرِكون عظيمَ صنعها وإعجاز تكْوينها، فتتابع النَّاس على مرِّ العصور لاستِكْشاف ذلك، حتَّى أُنشئت المعاهد المتخصِّصة في الغرب لدراسة البعوضة لوحدها.
وفيها من بديع الصُّنع، وعظيم الأسرار؛ ما يَجعلُنا نلهج دهرَنا بتسْبيح العزيز القهار.
يقول العلماء: إنَّ البعوضة ترفرِف بأجنحتها حوالي 500 مرَّة في الثَّانية الواحدة، كي تطيرَ بسُرعة متواضعة مقدارُها ثلاثة أميال في السَّاعة، ولا يمصُّ الدماءَ منها سوى الإناث لتغذيَ بيوضها بالبروتين الَّذي يحمله الدَّم؛ فهي تحافظ على نسلِها بامتصاص الدَّم، وهي الَّتي تنقل الأمراض.
أمَّا الذَّكَر فهو أكبر حجمًا، ويتغذَّى فقط على رحيق الأزهار، ولا يظهر إلاَّ في موسم التزاوُج.
للبعوضة مائة عين موجودةٍ في الرَّأس على شكلٍ يُشبه قرص العسل، ولها ثلاثة قلوب، تُحدِّد هدفَها ثمَّ تحطُّ عليْه، ثمَّ تشمُّ الدَّم لترى مناسبتَه لها من عدمها، فإن لم ترَ مناسبتَه تركتْه إلى غيرِه؛ وهذا ما يفسِّر لنا عدمَ عضِّ البعوضة لبعض النَّاس.
وإن وجدت الدَّم مناسبًا قصدت أماكنَه الغزيرة، فغرزت إبرتَها بعد بخِّ مادَّة مخدّرة لا يشعر معها الإنسان إلاَّ بعد خروج الدَّم، وحتَّى لا يتخثَّر الدم بعد خروجه تفْرز مادَّة تقوم بإحْداث تهيج في الجِلْد؛ ممَّا يسبِّب توارُد الدَّم إليْه حتَّى تكمل عمليَّة امتصاصها للدَّم، وهذا الإنزيم الَّذي تفرزه هو الَّذي يسبِّب الحكَّة، والانتفاخ بعد مصِّ الدَّم.
وهي لا تختَصُّ بعضِّ الآدمي، بل تعضُّ الحيوانات الَّتي هي أغلظ جلدًا من الآدمي بإبرتها المجوفة من الدَّاخل، والَّتي لم يستطِع العالمَ حتَّى الآن صنع إبرة خياطة مجوَّفة بمثل حجْمِها الدَّقيق.
فمَن الَّذي علَّمها وهداها لكلِّ هذا؟!
يقول الجاحظ: "فَمنْ علَّم البعوضة أنَّ مِن وراء ظاهرِ جلد الجاموس دَمًا، وأنَّ ذلك الدمَ غذاءٌ لها، وأنَّها مَتَى طعَنتْ في ذلك الجلدِ الغليظ الشَّثْن الشَّديد الصُّلبِ أنَّ خرطومَها ينفذ فيه على غير مُعاناة؟!
ولو أنَّ رجلاً منَّا طعنَ جلدَه بشوكةٍ لانكسرتِ الشَّوكةُ قبل أن تصِل إلى موضع الدم، وهذا بابٌ يُدْرَك بالحسِّ وبالطَّبع، وبالشبه وبالخِلْقة، والَّذي سخَّر لخرطوم البَعوضِة جلدَ الجاموس هو الَّذي سخَّر الصَّخرةَ لذنَب الجرادة، وهو الذي سخَّر قمقُمَ النُّحاس لإبرة العقرب!".
عباد الله: تقول الدّراسات الحديثة: إنَّ البعوضة أخطر حشَرة في العالم؛ فهي المسؤولة عن موْت ملايين البشَر، وهي السَّبب في نقْل مرَض الملاريا إلى الملايِين، و"الملاريا" كلِمة إيطاليَّة، تعني: الهواء الفاسد، وقد قتلت البعوضة بهذه الطَّريقة أكثر من كلِّ الَّذين قُتِلوا بسبب الحروب على مرِّ التَّاريخ.
وهي ناقلة للحمَّى الصَّفراء وحمَّى الضنك، والمتصدّع وداء الفيل والإيدز وغيرها.
يقول أحد علماء الحشَرات بعد ذكر إحصائيَّة حول ضحايا البعوضة: لا يُوجد هناك كائن حيّ على وجْه الأرض؛ كالبعوضة مسَّ حياة مثل هذا العدد الكبير من البشر، ولا يَخفى عليْنا أنَّ الله أهلك بها النمرود الَّذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه؛ يقول الجاحظ: "فأمَّا خلْق البَعوضةِ والنَّملة والفَرَاشةِ والذَّرَّة والذِّبَّان والجِعْلان واليعاسيب والجراد، فإيَّاك أن تتهاونَ بشأْن هذا الجُنْد، وتستخفّ بالآلة الَّتي في هذا الذَّرْء، فَرُبَّت أمَّةٍ قد أجلاها عن بلادها النَّملُ، ونقلَها عن مساقِطِ رؤوسها الذَّرُّ، وأُهلِكت بالفأر، وجُردت بالجَرَادِ، وعُذِّبت بالبعوض، وأفسَدَ عيشها الذِّبَّان، فهي جُندٌ إن أراد اللَّه - عز وجل - أن يهلِك بها قومًا بَعْدَ طُغْيانِهم وتجبُّرهم وعتُوِّهم، ليعرفوا أو ليُعرَفَ بهم أنَّ كثيرَ أمرِهم لا يقوم بالقليلِ من أمر اللَّه -عز وجل- وفيها بَعْدُ مُعتبرٌ لمن اعتبر، وموعظةٌ لِمن فكَّر، وصلاح لِمن استبْصر".
فإيَّاك -أيها المسلم-: واستحقارَ أيّ شيء؛ فإنَّ الحقير في نظرك قد يكون ذا شأن كبير عند الله، فلا تحتقِر من الصَّالحات قليلا، ولا تحتقِر من المعاصي مثقال ذرَّة.
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَهَا | فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ |
وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا | وَالمُخَّ مِنْ تِلْكَ العُرُوقِ النُّحَّلِ |
وَيَرَى الغِذَاءَ يَمُرُّ فِي أَوْصَالِهَا | مُتَنَقِّلاً مِنْ مَفْصِلٍ فِي مَفْصِلِ |
وَيَرَى مَكَانَ الوَطْءِ مِنْ أَقْدَامِهَا | فِي سَيْرِهَا وَحَثِيثِهَا المُسْتَعْجِلِ |
وَيَرَى وَيَسْمَعُ حِسَّ مَا هُوَ دُونَهَا | فِي قَاعِ بَحْرٍ مُظْلِمٍ مُتَهَوِّلِ |
اغْفِرْ لِعَبْدٍ تَابَ مِنْ فَرَطَاتِهِ | مَا كَانَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ |
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين.
إخوة الإسلام: لماذا ضرب الله البعوضة مثلاً؟
أسرار ذلك كثيرة، وأغواره بعيدة، ولعلَّ منها:
أنَّ من صفات هذه الحشرة العجيبة: أنَّ فيها من الشَّرَه أن تمتصَّ من دم الإنسان إلى أن تنشقَّ وتموت، أو تعجِز عن الطيران.
قال الرَّبيع بن أنس في ذلك: "إنَّ البعوضة تَحيا ما جاعت، فإذا سمنتْ ماتت، فكذلك القوم الَّذين ضرب لهم هذا المثل، إذا امتلؤُوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله عند ذلك، ثمَّ تلا قولَ الله -عز وجل-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].
عباد الله: لهذه البعوضة الَّتي نحتقِرُها ثلاثة أجنحة، وهي شيءٌ حقير أيضًا بالنسبة لحجم البعوضة، ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يُبيِّن لنا في حديث سهْلٍ عند التِّرْمذي: أنَّ الدُّنيا لا تُساوي عند الله هذا الجناح.
الدُّنيا بملْكِها وزينتها، وزخارفِها وأموالِها ولذَّاتِها، وكل ما حوتْه من خلْق آدم إلى قيام السَّاعة لا تبلغ عند الله مبلغ هذا الجناح عند أحدِنا، فيا سبحان الله!.
رَوى التِّرْمذي بسندٍ صحيح عن سهل بن سعْد -رضي الله عنه- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو كانتِ الدُّنيا تعْدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماء".
أفتستحقّ دنيانا بعد ذلك أن نتنازع عليها، ونتقاطع ونتباغض من أجْلِها، أو تستحقّ أن نغتمَّ ونهتمَّ لفواتها، أو تستحق أن نكذب ونحلف الأيمان الغموس من أجل تَحصيلها؟!
لا وربِّي إنَّها لا تستحقُّ منَّا أن نعصي الله لأجْلِها ولو يسيرًا!.
فإن وجدت -أيُّها المباركُ- الكافرَ والعاصيَ، ومن لا يعرف الله حقَّ المعرفة يتقلَّب في شيء من النَّعيم في هذه الدنيا، فلا تعجبْ؛ فإنَّما أعطاه الله شيئًا لا يساوي عنده جناح بعوضة، ويوم القيامة يكون وبالاً عليه.
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى المَرْءِ دِينَهُ | فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ |
فَلَنْ تَعْدِلَ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ | وَلا وَزْنَ زِفٍّ مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ |
هذا، وصلّوا وسلّموا على نبيِّكم...