الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن كرم الله -سبحانه- أنه إذا وعد وفَّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، فالخير كله بيديه، والخير كله منه، والنعمُ كلُّها هو موليها، والكمال والمجد كله له، فهو الأكرم حقًّا الذي لا يوازيه كرم، ولا يعادله في كرمه نظير.
الخطبة الأولى:
من أسماء الله الحسنى (الكريم)، وصفته الكرم، فهو اسم جامع لكل ما يُحمد، والخير والعطاء الذي لا ينفد.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الكريم هو: البهيُّ، الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنُه وأفضلُه. والله -سبحانه- وصف نفسه بالكرم، ووصف به كلامَه، ووصف به عرشَه، ووصف به ما كثُر خيرُه وحسن منظرُه - من النبات وغيره -".
فلا أحد أكثرُ خيرًا من الله -عز وجل-، ولا أكرمَ من إكرامه، ولا أجودَ من جُوده، ولا أنعم من إنعامه؛ لعموم قدرته وسعة عطائه، قال -سبحانه-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)[الحِجر: 21].
ومن كرمه -سبحانه وتعالى-: أنه أسبغ على عباده النعم، ومنحهم الهبات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يمين الله ملأى -أي: غاية الغنى والرزق الذي لا ينتهي- لا يغيضها نفقة -أي: لا ينقصها- سحاء الليل والنهار - الصب- أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه"(متفق عليه).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الله -سبحانه- غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو -سبحانه- مُحسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر؛ لا لجلب منفعة إليه من العبد؛ ولا لدفع مضرة؛ بل رحمةً وإحسانًا".
ومن كرم الله -سبحانه- أنه إذا وعد وفَّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، فالخير كله بيديه، والخير كله منه، والنعمُ كلُّها هو موليها، والكمال والمجد كله له، فهو الأكرم حقًّا الذي لا يوازيه كرم، ولا يعادله في كرمه نظير.
وما في العالم مما في الأرض هو من كرم الله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)[البَقَرَة: 29]، وأسبغ على عباده النعم ظاهرة وباطنة، قال -سبحانه-: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمَان: 20]، ولا يعدها العادون (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
ومن كرمه أنه يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويبدّل السيئات حسنات، قال -سبحانه- فيمن عصا أمره، واتبع الشيطان وهواه ثم تاب: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان:68-70].
وأتى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: "مالك يا عمرو"؟ قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: "تشترط بماذا؟" قلت: أن يُغفر لي، قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟"(رواه مسلم).
ومن كرم الله -سبحانه- أنه يجازي على العمل القليل بالأجر الكثير؛ قال -عز وجل-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)[النَّمل: 89]، وقال -سبحانه-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعَام: 160].
وفي الحديث القدسي: "يقول الله -عز وجل-: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشى أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة"(رواه مسلم).
وهناك أعمال صالحة أجرها لا يُعْلم، فالحسنات لفاعلها بغير عَدّ ولا حَدّ.
أولاها: الصبر، صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله، قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزُّمَر: 10]، ومَن صبَر فقد لازم التقوى، قال -سبحانه-: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البَقَرَة: 177].
وثواب الصبر بَيّنه الكريم -سبحانه-: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)[الرّعد: 22-23].
والمؤمن لا تُزَعْزع قلبَه المصائبُ فهو فيها صابر، وللنعماء شاكر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير؛ وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"(رواه مسلم).
والشدة والكرب والبلاء تمحيص وتهذيب للمؤمن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"(رواه الترمذي).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
العمل الثاني الصالح المضاعف أجره بلا حد: الصوم، وهو ترك المشرب والمأكل والجماع، وقد ورد في فضله ما في الحديث القدسي: "يقول الله -عز وجل-: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي"(متفق عليه).
وفي رواية: "قال الله -تبارك وتعالى-: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به"(رواه ابن خزيمة)، "ومن صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا"(متفق عليه).
قال ابن القيم رحمه الله: "وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئًا، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس، وتلذذاتها، إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه، لا يطّلِع عليه سواه".
ومن كرم الله للصائمين، أن في الجنة بابًا لا يدخله إلا هُم، فضلاً منه -سبحانه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل من الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد"(رواه مسلم).
والريان: صيغة مبالغة من الرِّيِّ، وهو نقيض العطش، والصوم لا يطلع عليه أحد من البشر، ولا يعلم به أحد، قال ابن عبد البر: "والصوم لا يظهر من ابن آدم في قول ولا عمل، وإنما هو نية ينطوي عليها صاحبها ولا يعلمها إلا الله، وليست مما تظهر فتكتبها الحفظة، كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر الأعمال".
العمل الثالث: الصدقة والبذل والعطاء، أجرها مضاعف، ومال المنفِق مباركٌ ومخلوفٌ عليه، قال -سبحانه-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)[البَقَرَة: 261].
وقال -عز وجل- (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ)[البَقَرَة: 245]، قال ابن كثير: "فالكثير مِن الله لا يُحْصَى، وفي قوله: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ)[البَقَرَة: 245]، أي: أنفقوا ولا تبالوا".
والصدقة سميت بذلك لدلالتها على صدق باذلها، وهي سبب في بركة المال وتزيده، قال -سبحانه-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)[سَبَإ: 39]، وفي الحديث: "ما نقصت صدقة من مال"(رواه مسلم).
والصدقة فيها تفريج هَمّ، وتنفيس كرب، وعطف، ورحمة، والصدقة قال عنها ابن القيم -رحمه الله-: "عَجَبٌ من العُجاب".
ورغّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصدقة فقال: "مَن تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلُوَّه -وهو الغرس الصغير- حتى تكون مثل الجبل"(متفق عليه)
وجاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة"(رواه مسلم)، عليها خطامها، أي: زمامها -فلا يوضع فيها الخطام إلا إذا قويت واشتدت وصارت صالحة لحمل الأثقال وغيرها-.
هذه أعمال صالحة -وغيرها كثير- تُبيّن كرَم الله لمن أطاعه من عباده، وأدَّى ما يكون به فوزه بالجنة والنجاة من النار.
فعلى المسلم أن يَجِدَّ ويجتهد ويشمَّر في العمل، وأن يبتعد عن كل ما يكون فيه الزلل، حتى يتعرض لنفحات كرم الكريم -سبحانه-.
وفَّقنا الله لأداء الصالحات، وصرف عنا الفواحش والمنكرات.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.