البحث

عبارات مقترحة:

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

القريب

كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

تحذير من فتنة الدنيا وتوصية باغتنام العشر

العربية

المؤلف صلاح بن محمد البدير
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات -
عناصر الخطبة
  1. التحذير من فتنة الدنيا الغرور .
  2. على المسلم أن يعمل صالحًا ليفوز بالنجاة يوم القيامة .
  3. فضائل عشر ذي الحجة والتوصية باغتنامها .

اقتباس

فيا تعاسةَ مَنْ جدَّد اللهُ لهم النعم الغزار، فنسوا الشكر والاستغفار، حتى نزلت بهم النقمة، وسُلبت منهم النعمة، ويا أسفى على غافل لا يفيق إلا بعد قوات الأوان، وانقضاء الزمان، فتذكَّروا زمن النُّقلة، وساعة اللقاء والعرض، ويوم الحساب والتوفية...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الذي أنزَلَنا ربيعَ فضله الخصيب، وأحلَّنا في ربوة كرمه الرحيب، وأكرَمَنا بالعيش المغدِق الناعم الرطيب، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يفرح بعبده التوَّاب الأوَّاب الثوَّاب المنيب، وأشهد أن نيبنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، شُرِّفَ بالنسيب والحسَب الحسيب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة ننال بها أجزل الأجر وأعظم النصيب.

أما بعدُ: فيا أيها المسلمون اتقوا الله؛ فإن الأمس مَثَلٌ، واليومَ عملٌ، وغدًا أملٌ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

أيها المسلمون: تمر علينا الغدايا والعشايا وتخطفنا الآجال والمنايا، وتكدر عيشنا المصائب والبلايا، فلا تركنوا إلى دنيا نوالها زوال، ودوامها محال، وغاية أمرها انتقال وارتحال، كم سرَّت ثم سَرَتْ وكم برَّتْ ثم بَرَتْ، وكم درَّت ثم فَرَتْ، وكم من غني ثريّ، كان يلبس الدفيء اللَّيِّن من ثيابها ويأكل الطري الناعم من طعامها، ويركب الهني الوطي من دوابها، حتى برَك الزمانُ عليه بجِرانِه، ووقَع عليه البلاء بأثقاله، كم من عزيز أعقَب الذلُّ عزَّه، فأصبح مرحومًا وقد كان يُحسَد.

فيا من تجمعون حطامها، وتكسبون آثامها: لا تغرنكم الفسحةُ، ولا تنسينكم المهلةُ، ولا تظنوا أن الدنيا لا تَحُول، ولا تحسبوا أن العطاء لا يزول، واعتبِروا بقوم قد انهمكوا في المعصية، وتركوا الموعظة، وتعالَوْا على التذكرة، ولم يقصدوا الشكر، ولا أصغوا إلى الإنابة، قد فتح الله عليهم رخاء الدنيا وسرورها، فظنَّ العبيد أن النعم لا تبيد، ففرِحوا وبطِروا، فاستأصل اللهُ شافتَهم ومحَا آثارَهم، قال جل وعز: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الْأَنْعَامِ: 44]، قال قتادة: "بَغتَ القومَ أمرُ الله، وما أخَذ اللهُ قومًا قطُّ إلا عند سَكرَتِهم، وغِرَّتِهم ونعيمهم، فلا تغترُّوا بالله؛ إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون"، وقال بعض العلماء: "رحم الله عبدًا تدبَّر هذه الآية: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً)[الْأَنْعَامِ: 44]"، وقال محمد بن النضر الحارثي: "أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة"، وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتَ الله يعطي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج"(أخرجه أحمد)، وقال الحسن: "والله ما أحدٌ من الناس بسَط اللهُ له في الدنيا فلم يَخَفْ أن يكون مُكِرَ له فيها إلا كان قد نقَص عملُه، وعجَز رأيُه"، وقال سفيان الثوري في معنى قوله -جل وعز-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)[الْأَعْرَافِ: 182]: "نُسبِغ عليهم النعمَ، وننسيهم الشكر"، وقال الحسن: "كم مستدرَجٍ بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه".

فيا تعاسة من جدَّد اللهُ لهم النعم الغزار، فنسوا الشكر والاستغفار، حتى نزلت بهم النقمة، وسُلبت منهم النعمة، ويا أسفى على غافل لا يفيق إلا بعد قوات الأوان، وانقضاء الزمان، فتذكَّروا زمن النُّقلة، وساعة اللقاء والعرض، ويوم الحساب والتوفية، تذكروا نشر الصحائف، فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل، تذكروا يومًا لا ينفع فيه الأبُ الشفيقُ، ولا الأخُ الشقيقُ، ولا الصديقُ ولا الرفيقُ، تذكروا؛ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عَبَسَ: 34-37]، فيا له من شغل شاغل، وخطب هائل، لا يلتفت فيه أحد إلى قرابته ولا إلى صحابته، كل شأنه الفرار والاعتذار؛ لعظم الأهوال وتغير الأحوال، قال عكرمة: "يَلْقَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: يَا هَذِهِ، أَيُّ بَعْلٍ كنتُ لَكِ؟ فَتَقُولُ: نِعْمَ الْبَعْلُ كنتَ! وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَتْ، فَيَقُولُ لَهَا: فَإِنِّي أطلبُ إِلَيْكِ اليومَ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَهَبِينَهَا لِي؛ لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ. فَتَقُولُ لَهُ: مَا أَيْسَرَ مَا طلبتَ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا ‌أَتَخَوَّفُ ‌مِثْلَ ‌الَّذِي ‌تَخَافُ. قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى ابْنَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ وَالِدٍ كنتُ لَكَ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ. فيقولُ لَهُ يَا بُنَيَّ، إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ؛ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى. فَيَقُولُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ، مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا" فاتقوا الله -أيها المسلمون-، فمن ضاعت في البطالة والجهالة أيامه، وكثرت في صحيفته أوزاره وآثامه، فمقام الحسرة غدا في القبر مقامه، إلا أن يرحمه أرحم الراحمين.

وكم هلك من أموات، ولم تزل تجري عليهم السيئاتُ، وكم مضى من أموات، ولم تزل تجري عليهم الحسنات، فأي حال لمن انقطعت أنفاسُه، ولم تَزَلْ تجري عليه أرجاسُه؟ وأي حال لمن انقطعَتْ حياتُه ولم تَزَلْ تجري عليه حسناتُه؟ فلا تسيروا في ركاب الهابطين، لا تقعوا في حبائل الساقطين، واستعيذوا بالله من نخسات الشياطين، والتجئوا إليه، فإن الاعتصام بالله واللَّجأ إليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغواية.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفِروه، ويا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي ازَّيَّنَتْ بشكره الأفواهُ، وخضعت لعظمته الجباهُ، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا معبودَ بحقٍّ سواه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه ونبيُّه وصفيُّه ووليُّه ونجيُّه ورضيُّه ومجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة تبقى وسلاما يترى إلى يوم الدين.

أما بعدُ فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه وأطيعوه ولا تعصوه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

أيها المسلمون: تحل بكم العشر الزاهرات المبارَكات، التي هي موطن النفحات وموئل البركات، وخير أيام السنة، والعشر المفخمة المقدمة المفضلة المبجلة، التي أقسم الله بهن لفضلهن على سائر الأيام، فقال جل وعز: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 2]، وهي العشر الأولى من شهر ذي الحجة، وقد ثبَت تفضيل العمل الصالح فيهن، على عمله في غيرهن، ففي الحديث العظيم الجليل عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "‌مَا ‌مِنْ ‌أَيَّامٍ ‌الْعَمَلُ ‌الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ" يَعْنِي الْعَشْرَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"(أخرجه البخاري والترمذي وأبو داود).

هي خير الأيام فضلًا وزمانًا، وأعظمها قدرًا ومكانًا، فأكثِروا فيهن من التكبير والتحميد والتهليل، وسارِعوا فيها إلى الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، وبادِروا العشر قبل فواتها، واغتنِموها قبل انقضاء زمانها، واجتهِدوا في الطاعات، راغبينَ فيها، غيرَ متثاقلينَ عنها.

وصلُّوا وسلِّموا على أحمد الهادي، شفيع الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

للخلق أُرسِلَ رحمةً ورحيمَا

صلوا عليه وسلِّموا تسليمَا

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن جميع الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهَّاب.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل بلادنا وبلاد المسلمين آمنة ساكنة مستقرة مطمئنة، يا رب العالمين، اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا، واخذل أعداءنا، يا ربَّ العالمينَ.

اللهم من أراد بلادنا بسوء أو شر أو فتنة اللهم فأحرقه بناره، واقتله بسلاحه، اللهم أبطل مكرَه، واهتك سترَه، وعجِّل بترَه، وأَذهب أمرَه، واجعله عبرةً يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لِماَ تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وَفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين يا رب العالمين.

اللهم سُقْنَا إليك بحنانكَ لا بامتحانكَ يا ربَّ العالمينَ، وأَغنِنَا بحلالكَ عن حرامكَ يا كريمُ، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحم موتانا، وانصرنا على مَنْ عادانا، اللهم اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.