العربية
المؤلف | إبراهيم سلقيني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - |
أيها الإخوة: يقترن قدوم العام الهجري الذي نستقبله؛ بذكرى أعظم حادث في تاريخ الإنسانية، هذه الذكرى؛ ذكرى هجرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتأسيس الدولة الإسلامية. وسيبقى حادث الهجرة على مدى الدهور والأزمان؛ مثلا أعلى للإيمان بالفكرة الصالحة، والآلام في سبيل تحقيقها. يبقى حادث الهجرة مثلا أعلى للاستجابة إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله آناء وأطراف النهار، ملء السماوات وملء الأرض، حيثما توجه إنسان وأينما استقر، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
سبحان من يفني الأعوام، وهو باق على الدوام، وتتناقص الأيام وهو منفرد بالجلال والكمال: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)[لقمان:29] ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ.
سبحانه لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفر ولا فسوق ولا عصيان، وهو غني عن عالمي الغيب والعيان.
تنقضي الأعوام وتطوى معها سجلات العباد، وقلة من الناس من يحرص أن تكون صفحات أعماله كريمة، يباهي بها: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)[آل عمران:30].
والأعوام -أيها الإخوة-: مراحل تنقضي من عمر كل منا، فكلما مر عام قرب كل إنسان من نهايته الحتمية.
والعاقل من يحسب حسابا لهذه النهاية، ويحرص دائما على مضاعفة أعماله الصالحة.
والغافل من يثقل أيامه ولياليه بالآثام والمخالفات، حتى يأتيه نذير الشيب والهرم، فيحاول أن يجبر التقصير، ويقرع سن الندم، ولكن قد تأتيه المنية، فلا ينفعه إلا عمله.
ولقد نبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، والعلماء العاملون إلى اغتنام فرصة العمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك".
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- أيضا: "اليوم والليلة مطيتان، فأحسنوا السير بهما إلى الآخرة".
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، وقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل".
وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
وعن سيدنا علي -رضي الله تعالى عنه-: أنه كان يقول: "اليوم ضيفك، والضيف مرتحل عنك، يحمدك أو يذمك".
أيها الإخوة: يستقبل العالم الإسلامي بعد أيام معدودات، عاما هجريا جديدا، إسلاميا، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- بدأه بشهر مبارك أيضا، ليستقبل المسلمون عامهم بالبركات، فأوله شهر محرم، وهو من الأشهر الحرم.
الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الفرد.
وجعل الله -تبارك وتعالى- هذه الأشهر من الأشهر المميزة، فحرم فيها القتال، وسن فيها الصيام، وميز الشهر الأول عن غيره، فجعل الصوم فيه أفضل من غيره إلا رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: "من صام يوما من الأشهر الحرم كان بثلاثين من غيره، ومن صام يوما من رمضان كان بثلاثين من الأشهر الحرم".
ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يحرص على الصيام، والإكثار منه في شهر محرم.
وقد سن للمسلمين صيام اليوم العاشر والتاسع منه، فصام صلى الله عليه وسلم اليوم العاشر، وقال: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر".
والعاشر، هو: ما يسمى بيوم عاشوراء.
وقد تعددت الروايات في سبب تخصيص هذا اليوم بالصوم؛ فمن الروايات: أنه اليوم الذي تاب فيه الله على سيدنا آدم -عليه السلام-.
ومن الروايات: أنه اليوم الذي نجى الله فيه نوح -عليه السلام-.
ومن الروايات: هو اليوم الذي نجى الله فيه سيدنا موسى وقومه من الغرق، وأغرق فرعون.
لذلك سن المخالفة لليهود في صيام التاسع مع العاشر، وسن ذلك الصوم شكرا لله -تبارك وتعالى-.
أيها الإخوة الأحبة: يقترن قدوم العام الهجري الذي نستقبله بذكرى أعظم حادث في تاريخ الإنسانية، هذه الذكرى ذكرى هجرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتأسيس الدولة الإسلامية.
وسيبقى حادث الهجرة على مدى الدهور والأزمان مثلا أعلى للإيمان بالفكرة الصالحة، والآلام في سبيل تحقيقها.
يبقى حادث الهجرة مثلا أعلى للاستجابة إلى دعوة الحق، وإلى التضحية بالنفس والأهل والمال والجاه والوطن، وكل غال ورخيص، في سبيل تلك الرسالة الخالدة، رسالة الإسلام.
أيها الإخوة المؤمنون: نعم سيبقى موقف الصحابة من مهاجرين وأنصار، وما لاقوا في سبيل هذه الرسالة من آلام، وما قدموا من تضحيات مثلا أعلى لكل مؤمن إلى يوم القيامة.
إنني أدعو نفسي وأدعو كل أخ مسلم: أن يذكر مواقف الصحابة في دعوتهم، ويضيق المجال عن ذكريات كثيرة، ولكن منها:
موقف المقداد بن الأسود -رضي الله تعالى عنه- حينما قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بدر: "لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ (أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة:24].
ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون".
أيها الإخوة المؤمنون: جدير بكل مسلم: أن يقف في بداية كل عام هجري وقفة الحساب والمراجعة والموازنة.
وكما أن كل تاجر يقف في بداية عامه وقفة حساب ومراجعة لأرباحه، أو لخسائره -لا قدر الله-، فجدير بكل منا أن يقف وقفة للحساب، فإن وجد خيرا حمد الله عليه: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)[النحل:53].
وإن وجد تقصيرا تلافى ذلك التقصير، وعمل على أن يتوب مما صدر منه توبة نصوحا، ومنها: رد الحقوق لأصحابها، إن كان عليه حق للآخرين.
وإني أيضا أدعو الأمة الإسلامية: أن تقف موقف الموازنة والمراجعة، بين ماضينا وحاضرنا، ماضينا المليء بالعزة والريادة، والسيادة والقيادة، وبين حاضرنا المليء بالضعف والتخاذل والصراعات المستمرة.
وأعيذيهم أن يقفوا وقفة اليائسين، أو وقفة الغافلين.
ولقد مرت على المسلمين قرون وقرون تفرقوا فيها، فهؤلاء قوم سبأ لما انحرفوا عن هدي رب العالمين؛ فطلبوا العزة في غير ما أنزل الله، فسلط الله -تبارك وتعالى- عليهم أعداءهم الحاقدون الماكرون الذين لا يفترون ليلا ولا نهارا في تنفيذ مخططاتهم، في التفريق والتميز والتحريش.
ولهذا فجدير بالمسلمين أن يتخلوا عن أنانيتهم، وعن مصالحهم الشخصية، ليجعلوا من رسولهم، ومن صحابته، وممن ساروا على هديهم، مثلا أعلى يسيرون على منوالهم، وينسجون على غرارهم، إن كنا نريد النصر والعزة، والقوة والسعادة، في دنيانا وفي آخرتنا.
سيدي يا رسول الله من أي النواحي لمسنا هجرتك وجدنا فيها العزة والإيمان، والصبر، فصلوات الله وسلامه عليه!.
سيدي يا رسول الله انظر إلى أمتك التي أعززتها فأذلها الطمع، وقويتها فأضعفها الجشع!.
انظر إليها، فو الذي بعثك بالحق بشيرا ونذيرا، إن لم يمددنا رب العالمين بمدد من عنده، سنظل في الأذلين، وسنصبح أثرا بعد عين، وسنكون من الهالكين!.
وليس العيب عيب الإسلام، ولكن الإسلام سلاح لا يعمل إلا بيد البطل.
اللهم لا عز إلا عزك، ولا نصر إلا نصرك، فألهمنا العزة بالإسلام، وثبتنا على مبادئه وقواعده، وادفع عن المسلمين كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، وردهم إلى دينك ردا جميلا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...