الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
صلاح الأسرة طريق أمان الجماعة، وصلة الرحم سبيل حفظ الأمة؛ فالزوجان وما بينهما من وطيد العلاقة، والوالدان وما يترعرع في أحضانهما من الولدان، والأقربون وأولو الأرحام وما ينتشر بينهم من وئام، كل أولئك يمثل الجماعة المجتمعة والأمة المؤتلفة في طبيعتها وبنائها وحاضرها ومستقبلها، من خلال هذا البناء تمتد وشائج القربى، وتتقوى أواصر التكافل ..
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، اتقوه تقوى من خاف ورجا فاستقام، وأدوا حقوقه التي افترضها عليكم في دين الإسلام، واشكروا المولى على ما أولى من الأفضال وجزيل الإنعام.
أيها الإخوة: صلاح الأسرة طريق أمان الجماعة، وصلة الرحم سبيل حفظ الأمة؛ فالزوجان وما بينهما من وطيد العلاقة، والوالدان وما يترعرع في أحضانهما من الولدان، والأقربون وأولو الأرحام وما ينتشر بينهم من وئام، كل أولئك يمثل الجماعة المجتمعة والأمة المؤتلفة في طبيعتها وبنائها وحاضرها ومستقبلها، من خلال هذا البناء تمتد وشائج القربى، وتتقوى أواصر التكافل، ترتبط النفوس بالنفوس، وتتعانق القلوب، في هذه الروابط المتماسكة والرحم الموصولة تنمو الخصال الكريمة وتنشأ الأجيال الوفية: (ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
لقد شاء المولى -تعالى وتبارك- بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى من نفس واحدة وطبيعة واحدة، رحم وقربى تتوثق عراها، ويتجدر نباتها ليقوم على سوقه بإذن ربه، فيحمي من المؤثرات ويحفظ من العاديات.
وفي كتاب الله اقترن حق الله وحق الوالدين وحق الأقربين في أكثر من آية ووصية: (وَعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِلْولِدَيْنِ إِحْسَـاناً وَبِذِى الْقُرْبَى) [النساء:36]، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـاهُ وَبِلْولِدَيْنِ إِحْسَـاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [الإسراء:23] ثم قال سبحانه: (وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَلْمِسْكِينَ وَبْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا) [الإسراء:26].
وفي مقام آخر قرنت الرحم بحق الله في التقوى: (وَتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] اتقوها أن تقطعوها، واعرفوا حقها أن تهضموها.
يقول بعض أهل العلم: ما بعث أنبياء الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يقدر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة: (قُل لاَّ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى) [الشورى:23].
وحينما قلّت عشيرة نبي الله لوط -عليه السلام- وضعف ركن قرابته أعذر نفسه بقوله: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود:80]. ومن ثم قال نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-: "يغفر الله للوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيًّا بعده إلا في ثروة من قومه".
ومن بعد لوط قال قوم شعيب لشعيب -عليه السلام-: (وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـاكَ) [هود:91]، وامتن الله على نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى:6].
أيها الإخوة: ما سميت الرحم رحمًا إلا لما فيها من داعية التراحم وأسباب التواصل ودوافع التضامن.
وقد قال علي -رضي الله عنه-: "عشيرتك هم جناحك الذي بهم تحلق، وأصلك الذي به تتعلق، ويدك التي بها تصول، ولسانك الذي به تقول، هم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك".
وما المرء ولا المروءة إلا رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محتملة، وأعذار مقبولة.
بصلة الرحم تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتشتد عرى القرابة، وتضمحل البغضاء، ويحن ذو الرحم إلى أهله.
وفي الخبر عنه –صلى الله عليه وسلم-: "إن صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر". بصلة الرحم تزيد الأعمار، وتعمر الديار، وتبارك الأرزاق، وتستجلب السعادة، وتتقى مصارع السوء.
أيها الأحبة: إذا كتب الله لعبده التوفيق فكان ألفًا مألوفًا محبًّا لأهله، رفيقًا بأقربائه، حفيًّا بعشيرته، انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته، فيجتمع عليه الشمل، ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس.
ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام وتواد أهل القربى يبعث على التناصر والألفة ويجنب التخاذل والفرقة.
النفس الرحيمة الواصلة، الكريمة الباذلة، يورث الله لها ذكرًا حسنًا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء والأيدي تمتد بالدعاء، تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمدًا طويلاً، يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال وجميل الفعال وعظيم المنجزات وكثرة الآثار، من وصل أقاربه أحبه الله وأحبه الناس ووضع له الذكر والقبول، وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: "من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"؟!
وقال لها رب العزة في الحديث القدسي: "من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته". وإنكم لتعلمون أن من وصله الله فلن ينقطع أبدًا.
"فمن سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
أيها المسلم: من حق أهلك وأرحامك أن تعود مريضهم، وتواسي فقيرهم، وتتفقد محتاجهم، وترحم صغيرهم، وتكفل يتيمهم، تبشُّ بهم عند اللقاء، وتلين لهم في القول، وتحسن لهم في المعاملة، ما بين زيارة وصلة، وتفقدٍ واستفسارٍ، ومهاتفة ومراسلة، تبذل المعروف، وتبادل الهدايا والتحيات، في حب وعدل وإحسان وفضل، وخفض جناح ودعاء.
أيها الأخ الفاضل: ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن عليك أن تصلهم وإن جفوا، وتحلم عليهم وإن جهلوا، وتحسن إليهم ولو أساؤوا، فقد قال نبيك محمد –صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعتْ رحمه وصلها".
نعم -حفظك الله-، إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة، وتستر الزلة؛ فأي صارم لا ينبو؟! وأي جواد لا يكبو؟! وما العقل والفضل والنبل إلا أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل ويعظم الفضل وتسمو النفس حين تحسن الظن بهم، وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن. وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.
اسمع -رعاك الله- إلى هذه القصة التي تنضح نبلاً وشرفًا:
حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف –وكان أجود قريش في زمانه- قالت: يا طلحة: ما رأيت قومًا ألأمَ من إخوانك!! قال: ولمَ ذاك؟! قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك؟! قال: "هذا والله من كرمهم؛ يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم".
فانظروا كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً، وهذا محض الكرم ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، انه تغافل مع فطنة، وتآلف صادر عن وفاء، وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.
أين هذا –أيها الناس– من أناس ماتت عواطفهم، وغلب عليهم لؤمهم؟! فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قربوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفو أهله وأقرباءه، يحسن للأبعدين، ويتنكر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة، تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها، أو وشاية صدقها، أو حركة أساء تفسيرها.
معاذ الله -عباد الله-، ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته؛ اقرؤوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ) [محمد:22، 23]، نعم يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة، وتزول عنهم النعمة، والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحمٍ.
من لم يصل رحمه ويتعاهد بخيره أقاربه فلا خير فيه ولا نفع منه، من ذا الذي قد فاض ماله، يأكل ويشرب ويكتسي ويتمتع، وأقاربه الضعفاء عراة جائعون، ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟!
ولقد قال علي بن الحسين -رضي الله عنه وعن آبائه-: "يا بني: لا تصحبن قاطع رحم؛ فإني رأيته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع، ومن لم يصلح لأهله لم يصلح لك، ومن لم يذب عنهم لم يذبَّ عنك".
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله- واحذروا سخط ربكم، وصلوا أرحامكم: (وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَـابِ اللَّهِ) [الأحزاب:6].
الخطبة الثانية:
الحمد لله؛ خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، أحمده سبحانه على كل فضل، وأشكره على كل نعمة، وأتوب إليه وأستغفره إعلانًا وسرًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء خبرًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أعلى الناس منزلة وقدرًا، وأوصلهم رحمًا وبرًّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: صلة الرحم حق لكل من تربطك به صلة نسب أو قرابة، وكل من كان من كان أقرب كان حقه أولى وألزم: "أمك وأباك، ثم أدناك أدناك". وأسرع الخير ثوابًا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم. ألم تعرفوا أن شريف خصال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم -وخصاله كلها شريفه- ألم تقرؤوا نعت خديجة لحبيبها محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!: "كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتحمل الكل، وتصل الرحم، وتقري الضعيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق". صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس، حسن معاملة تعلو بها المراتب ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودات، وتحسن بها العواقب.
فحذار حذار -رحمكم الله- من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم، وإياكم إياكم أن تتظارفوا وتتكايسوا مع الأبعدين وتنسوا الأقربين؛ فإنكم إن فعلتم غبنتم أنفسكم وظلمتم الحق الذي عليكم، وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة، ويجعل أفرادها مرتعًا للفتن ونهبًا للأحقاد وفريسة للتمزق، وقد قيل في مأثور الحِكَم: "لا تقطع القريب وإن أساء، فإن المرء لا يأكل لحمَه وإن جاع".
فاتقوا الله -رحمكم الله-، واستعينوا بالله على مرضاته، واستمسكوا بآداب شريعته، تولانا الله جميعًا في أنفسنا وذوينا ومحبينا، وأعاننا على امتثال أمره وطاعته واتباع نبيه بمنه وكرمه.