البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
هذه المفاهيم الشرعية حول قضية الرزق ينبغي أن يتذكرها المسلمون دائماً وأبدأ وهم يطلبون الرزق ويسعون له، فإن تدبرها وتأملها والإيمان بها يربح النفس من العناء، وحين تختل هذه المفاهيم وتنسى هذه القيم يُصاب الناس بأدواء الدنيا المهلكة, التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].
عباد الله: ويتصل الحديث معكم عن تكلم القضيةِ المهمة، والتي شغلت جُلَّ تفكير الناس اليوم، وأهتم بها الصغار والكبار والرجال والنساء، ألا وهي الرزق وخاصةً في هذا الوقت الذي شحَّتْ فيه الوظائف، وتقلَّصتْ فيه فرصُ العمل الوظيفي وغيره، وعمَّتْ فيه البطالة عدداً ليس بالقليل من خريجي الجامعات والمدارس والمعاهد ونحوها, خاصةً مع ضعف إيمان كثير منهم بأن الرزاق هو الله!!
ولقد سبق منا الحديث في الجمعة الماضية عن الرزق، وعما يطمئنُ نفسَ المؤمن المتوكِّل على ربه، وهو الثقة بما في يد الله عما في أيدي الناس، ويجعله تنوعاً بما رزقه الله وإن كان يسيراً.
فالرزق مقسوم، قد تكفَّلُ الله به للخلق، وكتب رزق كل مخلوق وهو في بطن أمه، قبل أن يخرج إلى الدنيا. قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6] وقال الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60] وقال الله تعالى:- (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56 - 58] وقال رسول الله: " لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ".
أيها الإخوة في الله: ما خلق الله حياً من الإحياء إلا وقد تعهد برزقه أياً كان رزقُه قليلاً أو كثيراً، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) [النحل: 71] وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى ما شعري رسالة جاء منها: "وأقتنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق" فسبحان من قسم الأرزاق بين عباده فمن الناس من وضع رزقه على المكتب أمامه وهو مستريح على كرسيه! ومنهم من يجريه الله عليه بما يكتبه بيده، ومنهم من وضع الله رزقه أمام الفرق أو التنور، ومنهم من رزقه في مصنع الثلج، هذا أيداً عن البرودة! وذاك عن الحرارة !!
ومن الناس من رزقه مع الأولاد الصغار في المدارس أو العمال الكبار في المصانع، ومنهم من رزقه لُجّةً البحر فهو يغوص ليستخرجه! أو فوق طبقات الهواء فهو يركب الصعاب ليأتي به، ومنهم من رزقه وسط الصخر الصلد، فهو يكسره ليستخرجه، ومنهم من رزقه في الأرض وآخر مع دواب الأرض وثالث مع كنوز وجواهر الأرض. تعددت الأسباب وكثرت الطرق والرزاق واحد، هو الله جل جلاله.
فالناس كل الناس في سباق، فما منا إلا من يجد أمامه من سبقه، ووراءه من تخلف عنه، كل امرئٍ منا سابقٌ ومسبوق, والمؤمن الصادق لا ييأس من نفسه ولا يبك حظه، فإنه صار عالياً فغيره من هو دونه، ودون الدون من هو أسفل منه. قال الله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) [النحل: 71].
والله هو الذي قسَّم الأرزاق، وكتب لكل نفس رزقَها وأجلَها ومع ذلك لم يأمرنا بالقعود وترك العمل وترك بذل الأسباب حتى يأتي الرزق، بل قال الله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك: 15] أي أعملوا، والأمر من الله (فَامْشُوا) ولم يقل اسعوا، فنمشي لدنيانا وأرزاقنا مشياً، لعباده ربنا وما يقربنا إليه من الطاعات والعبادات فقال: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9] مشي للرزق وسعي للعبادة، بخلاف ما عليه المتكالبين على الدنيا من السعي لها والمشي بل القعود عن العبادة والطاعة. نسأل الله لنا ولهم الهداية والسلامة والعافية.
عبـاد الله : وكما أن الرزق مقسوم، حقٌّ نؤمن به فلابد من اتخاذ الأسباب, والناس في أمر الأسباب ذهبوا مذهبين كلاهما بعيدٌ عن الصواب, فمنهم من ظن أنه ما دام الرزق مقسوماً فما عليه إلا أن يقعد وينتظر، فيترك العمل ويحتج ببعض الآيات والأحاديث عن رسول الله, ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: " لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً – أي جائعة- وَتَرُوحُ بِطَاناً " أي ممتلئة وغفلوا عن أن هذا الحديث وأمثاله حُجةً عليهم لا لهم، فالطير هل قعدت في أعشاشها وانتظرت أرزقاها؟ أم أنها عدت وراحت؟ وهل تملك الطير إلا الغدو والروح؟!.
ومن الناس – في المقابل – من أتكل على الأسباب وحدها، وظن أن النتائج منوطة بها أبداً. ونسوا أن وراء الأسباب مسبباً، وأن لأرزاق الخلائق مدبراً!!
فهم بهذا الظن خسروا وإن ربحوا في دنياهم، خسروا شيئاً من دينهم وإن ربحوا في مكاسبهم وتجاراتهم وأعمالهم، والصواب هو العمل بالأسباب مع صدق التوكل على الله والثقة بما عنده، والإيمان بأن كائناً من كان لا يأكل نعمة لم يكتبها الله له، ولو بذل مهما بذل. فالله هو المعطي وهو المانع، وما يمنع أحداً شيئاً إلا عوضه خيراً منه.
أيها الإخوة المؤمنون: كما أمرنا الله بالسعي والضرب في الأرض لطلب المعاش والرزق فللرزق أسبابٌ شرعية جاءت في الكتاب والسنة، من عمل بها كان أقرب إلى رزق الله وسعته، ومن لم يأتِ بها كان أبعد عن الرزق إلا أن يشاء الله، ابتلاء وامتحاناً وإمهالاً واستدراجاً من الله.
وعرض هذه الأسباب نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديونٌ لا يستطيع أداءها، ونافعٌ لكل من لم يتحصل حقاً له عند آخر فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك لمن لا يكفيه راتبه ولا يغطي حوائجه من كثرة المصروفات ونحوها، وبالجملة فعرض هذه الأسباب الجالبة للرزق والتي هي بمثابة مفاتيح للرزق فيه خير عظيم لمن تدبرها وعمل بها.
وأول هذه الأسباب: الاستغفارُ والتــوبــة, فمن أهم ما يستنزل به الرزقُ الاستغفارُ والتوبة إلى الله تعالى, قال سبحانه حكاية عن نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10، 12] قال القرطبي رحمة الله: "في هذه الآية دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار". وقال ابن كثير: "أي إذا نبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه لكثَّر الرزق عليكم وسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض". وذكر الإمام القرطبي عن أبي صبيح قال: "شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة، فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: "ادع الله أن يرزقني ولداً" فقال له: استغفر الله.فقيل له: "أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار" فقال: "ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10، 12]. الله أكبر إما أعظم ثمرة الاستغفار وأجلها وأكثرها.
ولكن وللأسف فكثير من الناس يستغفرون الله باللسان فقط ولا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، ولا واقع للتوبة في حياتهم، فهم وإن استغفروا وتابوا فاستغفارهم وتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات من الذنب والمعاصي والسيئات، بل لربما تمنى أن يعاود الذنب مرة أخرى.
فتوبة واستغفار هذا حالها حَرِيٌّ ألا يحقق اللهُ لصاحبها ما وعد به المستغفرين التائبين الصادقين في توبتهم واستغفارهم، بل لربما ضيَّق الله عليهم في أرزاقهم ومعاشهم، لأنهم غير صادقين من قلوبهم في توبتهم واستغفارهم. قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) [هود: 3]. فأكثر من التوبة والاستغفار يفرج الله همهك وينفس كربك ويرزقك من حيث لا يحتسب.
ومن أسباب الرزق ومفتاح من مفاتيحه: التقـوى: والتقوى عرفها العلماء بقولهم امتثال أمر الله واجتناب نهيه، والوقاية من سخطه وعذابه عز وجل. ولذا من صان نفسه عن المعاصي هو متقٍ لله، ومن قام بالواجبات والأوامر وحافظ عليها كان من المتقين الله تعالى أما من عرض نفسه بالمعصية لسخط الله وعقوبته فقد أخرج نفسه عن وصف المتقين. والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3] أي من جهة لا تخطر له ببال، يأتيه الرزق من حيث لا يأمل ولا يرجو.
ولهذا السبب شواهدُ عظيمةٌ كثيرةٌ من القديم والحديث، ولكن الخلل في عدم صدق التقوى وتحقِّقها، فما أكثر المنغمسين في المعاصي مشاهدةً واستماعاً وكلاماً واجتماعاً وأفعالاً، ثم يقولون لا نجد رزقاً، لم نجد عملاً، لم نحصِّل وظيفة! ولو اتقوا الله لجعل لهم من كل همٍّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ولرزقهم من حيث لم يحتسبوا, قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]، فالعمل بتقوى الله والحكم بما أنزل الله، وتنفيذ أحكام كتابة سبب لحلو الرزق وسعته، قال تعالى: ] (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 66]، أي لأكثر الله الرزق النازل عليهم من السماء, والثابت لهم من الأرض ولأسبغ عليهم الدنيا إسباغاً.
ومن أسباب الحصول على الرزق: التوكلُ على الله تعالى: والتوكل هو تفويض الأمر إلى الله والاعتماد على الله وحده، وعدم التعلق بالمخلوقين (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت: 17]لا عند غيره، والمتوكل الصادق هو الذي يفرغ قلبه من التعلق بغير الله، ويربط الله وينتظر الفرج والرزق منه لا من غيره جل وعلاه مع بذل الأسباب والأخذ بها. قال رسول الله: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً". فهذه الطيور الصغيرة صادقة في توكلها، متوكلة عليه حق توكله سبحانه وتعالى، ولذا رزقها الله كل يوم رزقاً, (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3] أي يكفيه رزقه ودينه وما أهمه, أما من ضعف توكله على الله واعتمد على الآخرين، ولكن إلى الوسائط وتعلق قلبه بالموظف الفلاني، أو النتائج لتلك الشركة أو الدائرة, فقد يخذله الله لأنه ما صدق التوكل على الله، ولا أعتمد بقلبه على الله، ولم يترقب الفرج والرزق من الله.
ومن أسباب الرزق العظيمة: التفرغ لعبادة الله جل جلاله: ومعنى تفرغ العبد لعبادة الله أي أن يكون العبد حاضر القلب عن العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله وليس المقصود بالتفرغ ترك السعي لكسب المعيشة والجلوس في المسجد ليلاً ونهاراً، كلا بلا المراد أن يكون العبد حاضر القلب والجسد أثناء العبادة، خاشعاً خاضعاً لله رب العالمين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقولُ الله تبارك وتعالى : ابنَ آدم ، تَفَرَّغْ لِعبَادَتي أمْلأُ صَدرَكَ غِنى ،وأَسُدَّ فَقْرَك ، وإلا تفعلْ ملأتُ يديك شُغْلا، ولم أَسُدَّ فقرك" حديث صحيح.
وفي رواية أخرى: "يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً. يا ابن آدم إلا تباعدني فاملأ قلبك فقراً ، وأملأ يديك شغلاً " صحيح.
فبعض الناس – عياذاً بالله - قد ملأ الله يديه شغلاً ، فأعماله وتجاراته وارتباطاته الدنيوية ليس لها حد، ومع هذا قد ملأ الله قلبه فقراً، لم يرزقه الله القناعة أو البركة فيما آتاه، لأنه ما فرغ لعباده الله بحضور قلبه فيها.
ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة: بمعني أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر، أي إذا حج يعتمر، وإذا اعتمر يحج وهكذا. والدليل على ذلك قول المصطفى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ مَا بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ والذهب والفضة". فجعل المتابعة بين الحج والعمر نافية للفقر والذنوب مذهبة لهما.
ومن الأسباب الشرعية للرزق: صلــة الـرحـم, فهي من مفاتيح الرزق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ ، ويُنْسأَ لَهُ في أثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" صحيح. وفي رواية: " جامع الأصول في أحاديث الرسول (6/ 488)
تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صِلَة الرحم : مَحَبَّة في الأهل ، مَثْرَاة في المال، مَنْسَأة في الأثر" المسند وهو صحيح, أي تطيل عمره بالبركة فيه.
والرحم هم أقارب الرجل سواءً من جهة أبيه أو أمه سواء كانوا يرثونه أم لا. وسواءً كان ذا محرم أم لا، سواء كان طائعاً أو عاصياً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لَيَكُونُونَ فجرةً فتنموا أَمْوَالِهِمْ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تواصلوا" رواه ابن حبان وهو صحيح.
ومن أسباب الرزق ومفاتيحه: الإنفاق في سبيل الله, قال الله تعالى: (مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنْفِق عليك"رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما طلعت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان، إنهما يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وما غربت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجّل لمنفق خلفًا، وعجل لممسك تلفًا" رواه أبن السيني في القناعة وقال مخرجه صحيح, ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "أنفق يا بلال! ولا تخش ممن الذي العرش إقلالاً".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ ، اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال : فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ ، فقال له : يا عبدَ الله ، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ : إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يقولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ، فَقَالَ : أمَا إذ قلتَ هَذَا ، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً ، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ" فالصدقة والإنفاق في سبيل الله من أسباب الرزق وسعته, وكذلك الإحسان إلى الضعفاء والفقراء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" البخاري، وفي رواية: "ابغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" حديث صحيح.
عبــاد الله: هذه بعض الأسباب الشرعية الجالبة للرزق، فإذا ما ضاقت الدنيا بعبد في بقعة من البقاع فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء: 100] أي يجد في الأرض التي هاجر إليها من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنوف من أخرجوه من بلده، ويجد أيضاً سعةً في الرزق, كما حصل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجروا من بلادهم مكة إلى المدينة، فحصَّلوا من الخير والنعمة والفضل ما أرغموا به أنوف كفار قريش، وزادهم الله سعة في أرزاقهم.
أيهـا الإخـوة الفضـلاء: هذه أبرز أسباب زيادة الرزق، والقضية تحتاج إلى صبر ومصابرة وعمل وامتثال، لأن البعض يقول: تبتُ ولم أجد الرزق! وصلتُ رحمي وما توسَّع رزقي، تصدقتُ اليوم فما زاد رزقي! فالله وعد (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122] ونتائج كثير من الأعمال لا ترى فوراً، بل قد يؤجل الله الرزق لعبده في وقت هو أحوج ما يكون إليه.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يُمد في أعمارنا وأن يوسع في أرزاقنا ويجعلها عوناً لنا على طاعته.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب
الخطبة الثانية:
أيها الأحبة في الله: طوبي لعبد قنعه الله بما آتاه، يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه".
أتدرون ما الكفاف؟ قيل: هو الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص, وسئل سعيد بن عبد العزيز: ما الكفاف من الرزق؟ قال: شبع يوم، وجوع يوم، وهكذا كان عيش رسول الله والطريق إلى القناعة والرضا بما قسم الله لقول المصطفى كما في الصحيحين: "إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من أسفل منه"، وفي رواية لمسلم "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
وإليكم نموذجاً عملياً لهذه القاعدة العظيمة النبوية: يقول عون بن عبد الله بن عتبة: "كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر هماً مني، كنت أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت هذا لحديث صحبت الفقراء فاسترحت وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أصبح آمنًا في سربه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، فكيف لا يقنع برزقه من يسمع هذا القول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
النفس تطمع في الدنيا وقد علمـت | أن السلامة منهـا ترك ما فيها |
والله لو قنعت نفسي بِمـا رزقـت | من الْمعيشة إلا كان يكفيهـا |
واللـه واللَّـه أيْمـان مـكـررة | ثلاثة عـن يَمين بعد ثانيهـا |
لـو أن في صخـرة صمًـا ململمة | فِي البحر راسية ملس نواحيها |
رزقًـا لعبد براهـا اللَّه لانفلقـت | حتَّى تؤدي إليه كل ما فيهـا |
أو كان فوق طباق السبع مسلكهما | لسهّل الله فِي المرقـى مراقيها |
حتى ينـال الذي في اللوح خطّ له | فإن أتته وإلا سـوف يأتيهـا |
أيها المسلمـون:
هذه المفاهيم الشرعية حول قضية الرزق ينبغي أن يتذكرها المسلمون دائماً وأبدأ وهم يطلبون الرزق ويسعون له، فإن تدبرها وتأملها والإيمان بها يربح النفس من العناء، وحين تختل هذه المفاهيم وتنسى هذه القيم يُصاب الناس بأدواء الدنيا المهلكة, التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 11].
اللهم أغفر للمسلمين والمسلمات، اللهم آمنا… اللهم قنعنا بما رزقتنا … اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به …