الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التوحيد |
تميُّزنا العقدي يهدمه فئةٌ من مرجئة هذا العصر ممن يطالبون بإسلام مطابق للمواصفات الغربية، إسلام يجعل المسلمين كالمجرمين. إسلام يحفظ للمسلم إسلامه ولو ترك الصلاة وسبّ الدين ما دام يؤمن في قلبه بالله، إسلام يبيح الخمور والزنا، ويبرر للعاصي معصيته، فماذا بقي من معالم تميزنا العقدي؟! نحن نمارس نوعًا من إضعاف العقيدة ربما جهلاً وغفلة، وذلك حينما قصرنا مفهوم العقيدة على جوانب من توحيد الألوهية أو الربوبية.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة المهتدين وسلم تسليمًا كثيرة.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بحبل الله المتين، واعتصموا بالصراط المستقيم.
واعلموا أن أساس كل شيء، وأول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وقطب رحاه وذروة سنامه، الذي نُصِبت عليه القبلة، وأُسِّسَت عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعُصِمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي، ومهتدٍ وغوي.. إنه التوحيد والعقيدة.
إن للعقيدة أكبر الأثر في حياة الفرد والمجتمع، فالعقيدة السليمة هي السبب الأعظم لتفريج الكربات ورفع العقوبات وبسط النعم والخيرات.
صاحب العقيدة السليمة يتمتع بسكينة النفس وأمن الروح، ويتذوق نعمة الرضا، ويستروح نسمات الأمل، ويحيا في ظلال الحب الفسيح، ويحس بالقوة، ويشعر بالكرامة.. العقيدة سبب كل رخاء، وهي سرّ ما نعيشه من أمن حتى يسير الراكب من شمال البلاد إلى جنوبها لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
وما استجلبت الأُمَّة الأمن والرخاء بمثل سلامة العقيدة (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام:82]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور:55].
العقيدة هي أصل كل شيء وجميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على سلامة العقيدة، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
والعقيدة قاعدة الدين وأصله، ولا يتم إسلام المرء إلا بصلاح عقيدته، (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110].
وإننا إذ نحمد الله أننا في بلاد تنعم بالسلامة من المظاهر الشركية المخالفة للعقيدة؛ فلا أصنام تُعبَد، ولا قبور يُطاف عليها ويُنذر لها ويُدعى عندها، ولا أضرحة تُزار وتُقدس، ولا بِدَع تنشر ويُدْعى إليها، لكنَّ الذي نجهله أو نتجاهله هو أن هذه العقيدة التي هي سِرّ رخائنا وسبب أمننا، وعامل بقائنا تتعرض اليوم لحربٍ معلنة وتشويه لحقيقتها وانحراف في مفهومها.
صخرة تميزنا العقدي ثُلِمَتْ بصُور ومشاهد لأهل البدع والمذاهب المنحرفة .. فرأينا من يجهر بدعاء الأموات، ومن يستغيث بغير الله.. سمعنا في برامج التواصل من يسبّ صحابة رسول الله، ومَن يدعو للاستهانة بشعائر الله، وشاهدنا عبر الرسوم من يسخر من أحكام الله.
تميُّزنا العقدي يهدمه فئةٌ من مرجئة هذا العصر ممن يطالبون بإسلام مطابق للمواصفات الغربية، إسلام يجعل المسلمين كالمجرمين. إسلام يحفظ للمسلم إسلامه ولو ترك الصلاة وسبّ الدين ما دام يؤمن في قلبه بالله، إسلام يبيح الخمور والزنا، ويبرر للعاصي معصيته، فماذا بقي من معالم تميزنا العقدي؟! نحن نمارس نوعًا من إضعاف العقيدة ربما جهلاً وغفلة، وذلك حينما قصرنا مفهوم العقيدة على جوانب من توحيد الألوهية أو الربوبية.
سلامة العقيدة أن ننظر إليها من مفهومها الشامل، والذي يتضمن أصول الدين وأحكامه القطعية من الإيمان بالله وتوحيده، والإيمان بالملائكة، والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله -تعالى- وسائر أمور الغيب الواردة بالنصوص الثابتة ومنها فرائض الدين والأحكام القطعية.
ليس التوحيد -يا مسلمون- مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه كما كان عُبّاد الأصنام مقرّين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن محبة الله والخضوع له والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "إنَّ الله حرَّم على النار مَن قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"؛ فإن المقصود قول القلب وقول اللسان.
العقيدة تهتز حينما يمسخ الناس مفهوم العبادة الشامل الكامل للحياة الدنيا والآخرة إلى جزء يسير منها، وهو الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج، أما النظام الذي تقوم عليه الحياة.. أما الولاء لمن يكون والبراء ممن يكون.. أما الحب لمن والبغض لمن فهذه معانٍ بعيدة عن تصورهم ومجال تفكيرهم .
الإسلام يعني في مفهومه الشامل: الاستسلام الله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، إنه يعني الخضوع لأحكام الله والقبول لها والانقياد لأمر الله والرضى بها (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65].
إنه لا يكفي في الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله، وحكم رسوله، وما لم يصحبه الرضى النفسي والقبول القلبي وإسلام القلب والجنان في اطمئنان.
العقيدة السليمة تتضمن فيما تتضمنه عقيدة الحب لله وفي الله، فمن لوازم الإيمان أن يحب العبد ربه محبة تظهر آثارها في سلوكه وعمله. والعقيدة الصحيحة تتضمن الخوف والرجاء فالمؤمن يعيش في هذه الحياة بين شعورين يسيطران على نفسه؛ شعور بالخوف من عذاب الله وأليم عقابه، وشعور بالرجاء في رحمته وواسع مغفرته (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنعام:165].
إذا كنا نؤمن أن عقيدة الإسلام تعني الاستسلام والخضوع لرب الأرض والسماء، وتتضمن الخوف والرجاء والمحبة والولاء، فهذا الكمال العقدي يخرمه جيل يجلجل في آذانهم صوت الحق مرددًا "حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم"، وداعي الشيطان يردد: "عليك ليل طويل فارقد"؛ فما يلبث أولئك حتى يستجيبوا لداعي النفس والهوى؛ فيفتحوا آذانهم ليبول فيها الشيطان ويستيقظ أحدهم خبيث النفس كسلان.
فأين الاستسلام الله؟ وأين محبة الله والخوف من الله؟ وقد علمت أن من لوازم المحبة طاعة المحبوب.. أين كمال الاعتقاد وبعض نسائنا ترى في الحجاب قيدًا، وفي الحشمة والحياء إهانةً وذلاً، وفي القرار في البيوت حبسًا وتعطيلاً لما يسمونه بنصف المجتمع، فأين أولئك من قول الحق: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب:36].
أين كمال العقيدة ومبدأ الولاء والبراء عندنا يهتز؟، والواقع يكشف أن ولاء الناس اليوم لشهواتهم وأهوائهم، فلها حبهم الأكبر وانقيادهم الواضح، وتكشف أحداث الحياة أن ولاءهم لذاتهم ولصالحهم، وتكشف أحداث الحياة أن ولاءهم لعائلاتهم وعشائرهم وأهليهم أو لقوميتهم وأوطانهم حين رفعوها فوق كل شيء.
أين كمال العقيدة؟ وفي كل يوم تبرز لنا المواقف والأحداث جوانب الضعف في ولاء المسلمين لدينهم وإخوانهم المسلمين وبراءتهم من الكفر وحزبه والفسوق وأهله، وما واقع شبابنا في تعلقهم وحبهم لرموز كافرة وانغماسهم في مستنقع التشبه بالكفار في ملابسهم ومظاهرهم وحركاتهم إلا أكبر شاهد على ذلك.
إننا إن سلمنا من عبادة أصنام من حجارة أو أشجار فإننا وقعنا في عبادة صنم الهوى فآثرنا محبوبات النفس على ما يحبه الله ورسوله، ونزعم بعد هذا سلامة عقيدتنا (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان:43-44].
أما واقعنا في التوكل، وفي الإخلاص، وفي الخوف والرجاء، والحب؛ فأمر يورث الألم. فهل يبقى بعد هذا يا أخا الإسلام مجال لأن نردد: نحن أحسن من غيرنا، جاعلين من ذلك وسيلة لتبرير تعدّينا لحدود الله وتفريطنا في جنب الله.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وبعد:
ثمة مظهر من مظاهر الخلل العقدي وقع فيها أناس بالجهل والانقياد للأساطير والخرافات والأوهام، وحينما ضعف تعظيم الله في قلوبهم، وخَفَتَ نُور الإيمان والتوكل والاعتصام بالله القوي المتين.
مشاهد لمسلمين ضعفوا أمام البلاء، وتوجسوا خيفة من العين والحسد، وغاب عن قلوبهم أن ربهم هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وأن شعار التوحيد هو ما رفعه الخليل (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء: 77-82].
مسلمون فرُّوا من البلاء للبلاء، واستعاذوا من المخلوق بالمخلوق، وغفلوا أن الأمر كله لله، وأنه لو اجتمع الخلق كلهم على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك ما نفعوك.
مسلمون يستدفعون البلاء بالتمائم، والتعليقات والكتابات والصور يضعونها في بيوتهم وسياراتهم وأيديهم ورقابهم وعلى واجهات محلاتهم يزعمون أنها تجلب خيرًا أو تدفع ضرًّا فأين الإيمان بالله والتعلق به والتوكل عليه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك".
مسلمون يبتعدون عن خالقهم فلا يفزعون إليه، ولا يثقون به، ولا يتوكلون عليه.. يستوحشون من المستقبل فيستطلعونه عند كل كاهن وعراف ودجال ويتحسسونه في برامج الوهم، وينشد تقويم الحياة في قوانين الجذب والطاقة التي يسوق لها في وسائل التواصل والإعلام من نأى بجانبه عن الدين.. ومَن اتخذ له مِن دون الله وليًّا ووكيلاً ركَن إلى ضعف، واستند إلى هباءٍ، وتوكل على وَهَنٍ..
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه...