القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
أيها المؤمنون: إن تناقل الأخبار والشائعات من المجاهيل والكذابين والفسَّاق، ومن لا تُعلم أحوالهم ممن هم وراء هذه الأجهزة، وناشري الأخبار فيها يفضي بالناس إلى مضارٍ عظيمة، ومفاسد جسيمة، لا يحمدون عاقبتها، فكان متأكدًا علينا وواجب على كل مسلم أن يعمل بهذا الأدب الكريم العظيم الذي أرشد الله إليه العباد: (فَتَبَيَّنُوا)، (فَتَثَبَّتُوا)، (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) تصيبوا قومًا وأنتم متلبسين بالجهالة؛ لأنكم تنقلون أخبارًا لا تعرفون حقيقتها ولم تتأكدوا من مصداقيتها، بل...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم، وراقبوه في جميع أعمالكم وكل حركاتكم وسكناتكم؛ مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه، وتقوى الله هي خير زادٍ يبلِّغ إلى رضوان الله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة: 197].
معاشر المؤمنين: في سورة الحجرات وتعرف بـسورة الآداب آيةٌ عظيمة ذكر الله -جل وعلا- فيها أدبًا كريمًا جليلا من مكارم الآداب، وعظيم الأخلاق، يجب على كل مسلم أن يتحلى به، وأن يكون من المتصفين به، وبالاتصاف بهذا الأدب صيانةٌ للمجتمعات المسلمة مما يخلخل رابطتها، ويوهِن من صِلاتها، ويُضعِف من متانة الأخوة الدينية فيها، يقول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
أيها المؤمنون: ما أعظم الندامة وأشد الخزي الذي يقع فيه كثير من الناس في تلقي الأخبار وقبول الشائعات دون تثبتٍ أو أناةٍ أو تروٍّ في التحقق من مصداقيتها وصحتها وثبوتها واستقامتها، يقول الله -جل وعلا-: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) أي خبر (فَتَبَيَّنُوا) وفي قراءة (فَتَثَبَّتُوا)، وهما بمعنى متقارب، و"التبين": التفحص والتمعن في الأخبار، و"التثبت": الأناة والتروي في قبولها حتى يُتحقق من مصداقيتها، وهذا -عباد الله- في خبر الفاسق من الناس، فإن الفاسق يُتوقف في قبول الخبر من جهته حتى يُتثبت ويُتبين الأمر، (فَتَبَيَّنُوا)، (فَتَثَبَّتُوا) أي تحققوا من صدقه فإنه قد يكون صادقًا وقد يكون كاذبا، وإذا تلقى المرء أمثال هذه الأخبار وقبِلها كما جاءت بعلاتها وعلى عواهنها حصل فسادٌ عظيم، وشر كبير وندامة وخزي.
الناس -عباد الله- أحوالهم ثلاثة: صادق؛ وهذا يتلقى خبره ويُقبل. وكاذب؛ وهذا يرد خبره ولا يُقبل. وفاسق؛ وهذا يُتثبت من خبره ويُتحقق.
أيها المؤمنون: فكيف الأمر بهذا الزمان الذي وُجد فيه بأيدي الناس أجهزة سرَّعت وصول المعلومة وسرَّعت في انتقالها؛ حتى إنها في الثانية الواحدة تبلغ الآفاق فتصل إلى طراف الدنيا بأسرها! فما أعظم الخزي عندما تكون الأخبار المتناقلة كذبٌ وإفكٌ وافتراء، وما أعظم الخزي عندما تكون الأخبار المتناقلة يراد منها تفكيك أواصر المسلمين وخلخلة أخوَّة الإيمان بينهم! وقد جاء في صحيح البخاري في قصة الرؤيا المنامية العظيمة التي رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أخبار المعذبين في قبورهم؛ فذكر عليه الصلاة والسلام أنه رأى في جملة ما رأى رجلًا مستلقيًا على قفاه، وآخر قائم عليه بكلوب من حديد فيأتي إلى أحد شقيه فيشرشر شقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى شقه الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالأول، ثم يعود للأول فيجده عاد كما كان فيفعل به كما فعل، ويستمر في هذا العذاب. وذكر عليه الصلاة والسلام في تمام الحديث لما سأل من هؤلاء؟ قيل له في حق هذا الرجل: هو الرجل الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق.
وهذا الأمر كان في الزمان الأول وصول الكذبة إلى الآفاق يحتاج إلى زمن وإلى شهور عديدة، أما في زماننا هذا ففي الثانية الواحدة وبضغطة زر في جهاز المرء الذي في يده تصل الكذبة الآفاق.
أيها المؤمنون: يجب على الناصح لنفسه أن يعلم أن هذا الجهاز الذي في يده سيسأله الله -تبارك وتعالى- عنه يوم القيامة في كل كلمة كتبها، أو صوت نقله، أو منظر رآه، أو شائعة تقبَّلها أو نشرها، أو غير ذلك؛ فإن ذلك داخلٌ في عمل المرء الذي يحاسب عليه يوم يلقى الله ويقف بين يديه جل في علاه.
عباد الله: وكما أن المرء في نفسه لا يحب أن تُنقل عنه أخبارٌ لا صحة لها ولم يُتثبت من مصداقيتها؛ فكيف يرضى بذلك في حق الآخرين!
أيها المؤمنون: إن تناقل الأخبار والشائعات من المجاهيل والكذابين والفسَّاق ومن لا تُعلم أحوالهم ممن هم وراء هذه الأجهزة وناشري الأخبار فيها يفضي بالناس إلى مضارٍ عظيمة ومفاسد جسيمة لا يحمدون عاقبتها، فكان متأكدًا علينا -عباد الله- وواجب على كل مسلم أن يعمل بهذا الأدب الكريم العظيم الذي أرشد الله -سبحانه وتعالى- إليه العباد (فَتَبَيَّنُوا)، (فَتَثَبَّتُوا) قال: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) تصيبوا قومًا وأنتم متلبسين بالجهالة؛ لأنكم تنقلون أخبارًا لا تعرفون حقيقتها ولم تتأكدوا من مصداقيتها، بل كثيرا ما ينقل الناس أخبارًا لا يدرون من وراءها، بل أحيانا بعض الأخبار يكون من ورائها كفارٌ مجرمون وأعداء لدين الله آثمون يبتغون من وراء هذه الأخبار خلخلة روابط المسلمين وإيقاع العداوة والشحناء بينهم.
فلنتق الله -عباد الله- ولنحذر من مثل هذا، ولنحفظ أسماعنا، ولنصن قلوبنا، ولنحفظ أنفسنا عن مثل هذه الأمور التي هي مضرة ووباء وآفة خطيرة على المجتمعات الإسلامية.
نسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظنا في أنفسنا وأهلينا وأوطاننا، وأن يجمع كلمتنا على الحق والهدى، وأن يعيذنا من كل سبيل يفكك أواصرنا ويخلخل رابطتنا، وأن يجمعنا على الأخوة الدينة والرابطة الإيمانية متحابين في الله متعاونين على طاعة الله راجين رحمته خائفين من عذابه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله: وتبلغ هذه الشائعات بل الآفات المضرات شدة مضرتها عندما يُستهدف بها الولاة والعلماء؛ فإن الأمر -عباد الله- في هذا المقام جدُّ خطير، وضرره عظيم غاية الضرر؛ ولهذا يجب على العبد المؤمن أن يتقي الله -عز وجل-، وأن يحذر من الأمور التي تُتناقل وتتداول عبر هذه الأجهزة ووسائل الاتصال، وليحذر من نقل الشائعات وقبول الأخبار، وليكن عاملًا بأمر الله -سبحانه وتعالى- (فَتَبَيَّنُوا)، (فَتَثَبَّتُوا) لئلا يصيب قوما بجهالة فيبوء بندامة عظيمة وخزي كبير.
أعاذنا الله -عز وجل- من موجبات سخطه ومن الأمور المفضيات إلى غضبه جل وعلا، وأصلح الله أحوالنا، وجمعنا أجمعين على الحق والهدى بمنِّه وكرمه.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا وحافظًا ومؤيدا، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جنودنا المرابطين على حدود البلاد؛ أيدهم ربنا بتأييدك، واحفظهم بحفظك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].