الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
الفساد لما انتشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها؛ بعث الله عبده ورسوله نوحا -عليه السلام-؛ يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وينهى عن عبادة ما سواه, فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله, وأقبلوا على كتابه, قراءة وتدارسا وتدبرا؛ فما أنزل القرآن إلا ليتلى ويتدبر ويعمل به, وقد جعله الله دستورا للناس, وطريقا مستقيما للناس, يقودهم إلى رضوان الله والجنة.
وإن مما أودع الله فيه من الدلالات والعبر, قصص الأنبياء, وماذا حدث بينهم وبين قومهم؟, وما هي نهاية الأمر؟, ولمن كانت العاقبة؟؛ قال -جل شأنه- لنبيه: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود: 120], فالقصص السابقة للأنبياء والمرسلين والصالحين من المثبتات على الحق, المعينة على الدعوة, الشاحذة للهمم للسير على درب السلف الصالح.
وإن من تلك القصص التي حوت علما وحكما وفوائد كثيرة, قصة نوح -عليه السلام-, يقول الله -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الأعراف: 59], ونوح هو أبو الأنبياء كما هو معروف لدى الجميع؛ وذلك أن الأنبياء كلهم من ذريته, كما قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)[الصافات: 77], وقال فيه وفي إبراهيم: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)[الحديد: 26]؛ أي: كل نبي من بعد نوح فمن ذريته.
وإن المتأمل في كتاب الله يجد أن نوحا -عليه السلام- من أكثر الأنبياء الذي صبروا على قومهم, ومن أكثرهم تعرضا للأذى, قال محمد بن إسحاق: "ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل", قال ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون, كلهم على الإسلام".
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام؛ وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث عن ابن عباس عند تفسير قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)[نوح: 23], قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح, فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا, وسموها بأسمائهم ففعلوا, فلم تعبد, حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت", قال ابن عباس: "وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد", وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن إسحاق.
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها؛ بعث الله عبده ورسوله نوحا -عليه السلام-؛ يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له, وينهى عن عبادة ما سواه, فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
فلما بعث الله نوحا -عليه السلام-, دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له, وأن لا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طاغوتا, وأن يعترفوا بوحدانيته, وأنه لا إله غيره, ولا رب سواه, كما أمر الله -تعالى- من بعده من الرسل, كما قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36].
ولقد أنزل الله -تعالى- سورة كاملة وسماها باسمه, وفصل فيها دعوته لقومه, وصبره على أذاهم, حيث يقول -سبحانه- عن نوح: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)[نوح: 5 - 10].
فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار, والسر والإجهار, بالترغيب تارة والترهيب أخرى, وكل هذا لم ينجح فيهم؛ بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام, بل كانوا يسخرون منه عند دعوته لهم, ويضعون أصابعهم في آذانهم, ويستغشون ثيابهم, ويصدون باستكبار!.
ولقد صبر عليهم صبرا عظيما, حتى إنه لا يُعرف أحدٌ مكث في قومه مثلَ مكثِ نوح, كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)[العنكبوت: 14], ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا قليل, كما قال -تعالى-: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)[هود: 40], عن ابن عباس: "كانوا ثمانين نفسا, منهم نساؤهم".
وهكذا دعوة الحق لا يلزم أن يستجاب لها, والله له الحكمة البالغة في ذلك, وما على المرء إلا البلاغ.
اللهم اهدنا وسددنا, ويسر الهدى لنا, أقول قولي هذا, وأستغفر الله إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن قصة نوح -عليه السلام-, وأنه دعاهم إلى الله بكل سبيل, وصبر عليهم صبرا عظيما, وكما تعلمون كان من عادة الأشرار الوقوف في وجه الحق والخير والاعتراض عليه؛ وذلك لأنهم ظلمة, والحق يمنع الظلم؛ ولأنهم أهل فساد والحق يمنع الفساد, ويقطعهم عن شهواتهم وغيهم, فهم يعترضون على الحق؛ ليحموا شهواتهم!.
وهكذا نوح -عليه السلام- لما جاء لقومه ودعاهم لله, وقف أهل الشر في وجهه, وكان من جملة اعتراضهم, أن الذين تابعوك من أراذل القوم ولم يتبعك الأشراف!, ولقد تكلم ابن كثير كلاما عظيما على هذه الجملة, حيث يقول في تفسير سورة هود عن قصة نوح عند قوله: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)[هود: 27], قال: "هذا اعتراض الكافرين على نوح -عليه السلام-، وأتباعه، وذلك دليل على جهلهم, وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه؛ فإن الحق في نفسه صحيح، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل, بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل، ولو كانوا أغنياء, ثم الواقع غالبا أن الذين يتبعون الحق هم ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال -تعالى-: (كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23], ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟, قال: بل ضعفاؤهم, فقال هرقل: هم أتباع الرسل".
ولما أكثر نوح -عليه السلام- من مجادلة قومه وقفوا في وجهه قائلين: (قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[هود: 32 - 34], فهذا استعجال من قوم نوح بنقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق: فقولهم (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)؛ أي: من النقمة والعذاب، ادع علينا بما شئت، فليأتنا ما تدعو به؛ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ), فرد عليهم رد المشفق العالم بربه فقَالَ: (إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)؛ أي: إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يُعجِزُه شيء، (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)؛ أي: أي شيء يُجدِي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي، إن كان الله يريد إغواءكم ودماركم، (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)؛ أي: هو مالك أزمة الأمور، والمتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر، وهو المبدئ المعيد, مالك الدنيا والآخرة.
ولعلنا نقف على هذا ونكمل -بإذن الله- في الجمعة القادمة.