البحث

عبارات مقترحة:

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

رسالة إلى مكروب

العربية

المؤلف مازن التويجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. تقلبات الدنيا وعدم خلوها من الشدة والرخاء .
  2. ابتلاء الله لأنبيائه ورسله .
  3. وصية نافعة للمكروبين .

اقتباس

إليكم حديثًا أوجهه إلى ذاك الذي اجتمعت عليه الهموم، وصاحبته شدة طال عليه أمدها، ولازمته كربة أحكمت عليه حلقاتها، ونظر إلى أيامه فرأى بعضها يرقق بعضًا، يعيش في أرض يعرفها ولكنه غريب عنها بهمومه وأحزانه يسكن في دار فسيحة الأرجاء، ولكنها تبدو في...

الخطبة الأولى:

إن التقلب بين الشدة والرخاء حال يعيشها أهل هذه الدنيا، فلهم أيام شديدة تضيق عليهم بها، ويصبح ذلك الأفق الفسيح أضيق في أعينهم من سمِّ الخياط.

تعلو سماءه غيوم الأحزان والأكدار، وتسري مع هوائه ريح الآلام والكروب.

ولهم فيها أيام يتقلبون فيها في الرخاء وسعة العيش، ولكنه ممزوج بالنغص والغصص.

موعود بالفناء والانقضاء، فلا تدوم الدنيا على حال، وتلك سجية هذه الدار.

جبلت على كدر وأنت تريدهــا

صفوًا من الأقـذاء والأكــدار

ومكلف الأيام ضد طباعهـــا

متطلب في الماء جذوة نـــار

ومن هنا -أيها الإخوة الأحباب- إليكم حديثًا أوجهه إلى ذاك الذي اجتمعت عليه الهموم، وصاحبته شدة طال عليه أمدها، ولازمته كربة أحكمت عليه حلقاتها، ونظر إلى أيامه فرأى بعضها يرقق بعضًا، يعيش في أرض يعرفها ولكنه غريب عنها بهمومه وأحزانه يسكن في دار فسيحة الأرجاء، ولكنها تبدو في عينه مع جمالها وسعتها كوخًا صغيرًا، عاث الزمان به، فأبلى بأخشابه، وقيّض أركانه، لا يهنأ بطعمة شهية أو شربة هنية، ولسان حاله يقول:

عجبــًا للزمـان في حالتيــه

ولأمر دُفعـت منه إليــــه

رب يوم بكيـت منــه فلمــا  

صرت في غيره بكيت عليــه

إلى ذاك الذي طال به البلاء، فتربع اليأس في قلبه، وجثت الغموم على نفسه، فتنفس هواء الأحزان، واستنشق روائح الأكدار، فحجبت عنه أفقًا فسيحًا، ونورًا يملأ الكون من حوله إليه، ليعلم أن هذه حقيقة الدنيا:

ميزت بين جمالهــا وفعالهــا

فإذا الملاحـة بالقباحــة لا تفي

حلفت لنا أن لا تخـون عهودنـا

فكأنمـا حلفـت أن لا تفـــي

إليه، ليدرك أنها لن تصفو من غير كدر، ولن تحلو من غير ألم أو مرارة.

إليه، ليعلم أنه مهما اشتد البلاء، فإن الفرج يعقبه، ومهما قوي العسر فإن اليسر يغلبه.

إليه، ليتذكر أنه ليس وحيد الحال، ولا فرد الطريق، بل الشدة والبلاء، طريق سار فيه الأنبياء، وسلكها الصالحون الأولياء، فتمحصت القلوب وعادت نقية لا شائبة فيها.

إليه، ليبتسم أمام كل تلك الشدائد والخطوب وليشعل شمعة الأمل، وإن أحاط اليأس بالقلوب.

إلى صاحب الشدة والضيق، حديثًا أنتقل معه فيه إلى تلك النماذج التي عاشت أشد مما عاش، وذاقت أمرّ مما ذاق، وهي خيرُ من لامستِ الأرض خطاها، وأسير معه في وصايا وتحذيرات تجاه شدته وكربته.

فأول الحديث إليك -أيها المبارك- تأمل في حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كيف كانت تتعاقب عليهم الشدائد، وتتوالى عليهم الابتلاءات، وهم أكرم الخلق على الله -تعالى-؟

نوحٌ -عليه السلام- يلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الحق والهدى، صابرًا محتسبًا، طارقًا في الإبلاغ كل وسيلة، ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، فكان حقه التكذيب والاستخفاف، بوضع الأصابع في الآذان، ثم السخرية والاستهزاء، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه.

وتتعاقب السنين، وتجري الأعوام، والنتيجة: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)[هود:40].

تأمل في إبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن، يخاطب قومه بكل صدق ووضوح، ويقرون هم على أنفسهم بالضلال والعطب، ومع ذلك كان مصيره وجزاؤه، نارًا تضرم، ليلقى فيها عليه السلام على مرأى من الناس ومسمع، فأوثقوه ليلقوه فجاءه جبريل -عليه السلام- وهو على تلك الحال من الشدة والضيق، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي النار: حسبنا الله ونعم الوكيل".

فكان حكم الله وقضاؤه: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء:69].

وتأمل كيف ترك زوجه وولده في أرض فلاة قاحلة لا ماء فيها ولا كلأ، فإذا الفرج يأتي من الله فتكون مأوى الناس، وأرضًا تهوي إليها القلوب والأفئدة، ويأتيها الرزق رغدًا من كل مكان.

وتأمل في كليم الله موسى -عليه السلام-، والابتلاءات تحاصره، وهو لم يزل حبيسًا في بطن أمه، ثم يخرج إلى الدنيا، وحكم فرعون ينتظره، قال: سنقتل أبناءهم، فخافت عليه أمه، فألقته في اليم وهو طفل رضيع، لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، ليحمله الماء، إلى أين؟

إلى باب من يريد قتله فينطق الله امرأته بالفرج والسعة: (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)[القصص:9].

ثم تأمل في حاله يوم أن ائتمر به الملأ لقتلوه، فخرج إلى مدين خائفًا يترقب، غريب ضعيف، فأغناه الله من فضله، وهيأ له زواجًا مباركًا.

ثم تصور موقفه أمام البحر والمؤمنون معه، وجيش فرعون العظيم من ورائهم، حتى تراءى الجمعان، وبلغت القلوب الحناجر، وظن أصحاب موسى أنهم مدركون، فأعلنها عليه السلام ثقة بربه: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:62].

فجاء الفرج من الله -تعالى-، فضرب البحر بعصاه: (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء:63].

ونجى الله موسى -عليه السلام- ومن معه، وتحشرجت أنفاس الظالمين، فغصت بماء البحر الخضم.

وتأمّل في أيوب -عليه السلام-، وقد كان ذا مال وأهل وولد، صحيح البدن سليم الأعضاء، فابتلاه الله، فسلب ذلك كله، وداهمه المرض من كل صوب، يتقلب فيه ثماني عشرة سنة، فصبر واحتسب، حتى أتاه الغوث والفرج.

وتأمل في يونس -عليه السلام-، يوم أن دعا قومه فأبوا وعاندوا، فخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم، ووعدهم العذاب بعد ثلاث، فركب البحر مع قوم في سفينة، فهاج البحر بأمواجه، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا فأعادوها وهكذا ثلاثًا، فقام عليه السلام وألقى نفسه في البحر، فأرسل الله إليه حوتًا فالتقمه، وأمره أن لا يأكل له لحمًا، ولا يهشم له عظمًا: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء:87-88].

وتأمّل في يعقوب -عليه السلام- وهو يفقد وليده وحشاشة فؤاده، يفقد يوسف -عليه السلام- ريحانة القلب، وزينة الدار، وكحل العيون، فما يملك إلا أن يقول: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف:18].

ثم يفقد ابنه الآخر، فاجتمعت عليه الهموم والأحزان، فيرددها توكلاً ويقينًا: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)[يوسف:83].

وكان الفرج مع العير: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ *  قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[يوسف:94-96].

ثم تأمّل في يوسف -عليه السلام-، وكيف ألقي في الجب وبيع بيع العبيد، وهو الحر الأبي، ثم ابتلى بامرأة العزيز فصبر ونجح، ثم رمي زورًا وإفكًا فلبث في السجن بضع سنين، وبعد كل هذا كان الفرج: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ)[يوسف:54].

فكانت له القوامة على خزائن الأرض.

وتأمل حياة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كم تعرض للشدائد والابتلاءات؟ وكم مرت به الخطوب والمضايقات؟ وهو من سيد الأولين والآخرين؟!.

ألم يرمى بالشتائم والسباب من كفار قريش؟

ألم يرجع من الطائف، والأطفال والعبيد يرمونه بالحجارة، حتى أدموا قدماه الشريفتان؟

أما أوذي وأوذي أتباعه؟

ألم يحصر هو وأصحابه في الشعب؟

ألم يمكر به ليخرج أو يثبت أو يقتل؟

ألم يخرجه قومه من أرضه التي هي أحب أرض الله إليه؟

ألم يشج رأسه وتكسر رباعيته؟

ألم يبتلى في إفك الأفاكين على زوجه المصون، فقضى شهرًا من الأسى واللوعة؟

ألم تأت عليه أيامٌ حزم الحجارة على بطنه من شدة الجوع؟

ألم يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيته نار؟

ألم يمت صلى الله عليه وسلم وهو لم يشبع من الشعير قط؟

ألم يهده المرض هدًّا حتى إنه ليوعك كما يوعك الرجلان؟

ألم يعالج شدة الموت والسكرات، فيأخذ الماء بيده الشريفة، ويضعه على وجهه وهو يقول: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات".

فتأمّل تلك النماذج، الذين هم أكرم خلق الله عليه وأحبهم إليه، وما ذُكر غيض من فيض، وقطرة من بحر الحياة، ولو تتابع الحديث لطال المقام.

تلك أحوال القوم، لتعلم أنك لست غريبًا في هذا الطريق، لست وحيدًا فريدًا، لتعلم أنك لم تبلغ معشار ما بلغوا من الفضل والكرامة، ولن تبلغ معشار ما بلغوا من الشدة والبلاء والضيق.

الخطبة الثانية:

أيها الأخ المكــروب: إليك هذه الوصايا، وأنت تعالج شدتك وضيقك، أسوقها إليك من النبع الصافي، لتكون نبراسًا لك في حياتك، ولتنفتح أمامك سبل الأمل القريب، ولتعلم أن الأمر دون ما تقاسي، والفرج أقرب إليك من شراك نعلك.

فأوصيك أولاً: بتقوى الله -تعالى-، فهي مخرج من الشدائد والكربات؛ كما قال سبحانــه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3].

أكثر من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: أسر ابني عوف، فأرسل إليه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

وكانوا قد شدوه بالقيد، فسقط القيد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل، فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب.

فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه؟

وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القيد، فاستبقا الباب والخادم، فإذا هو عوف قد ملأ الفناء إبلاً، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل.

فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسأله عنها، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل.

فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعًا بمالك".

ونزل قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)[الطلاق:2].

ثم عليك بالدعاء، فإن به تفريج الكروب والهموم.