الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
سبحان الله القوي!, صَبِيٌّ يُهلِك مَلِكاً, وماءٌ يُغرِق قوماً, وبحرٌ يُدمِّر جيشاً, وبَعوضةٌ تُذِلُّ نمروداً, وأرضٌ تبلع قارون, وطيورٌ تطحن أبرهة؛ (فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله القويِّ المَتِين, الذي لا يُغلَب ولا يقُهَر, أحمَدُه وأشكُرُه, وأُثْنِي عليه الخيرَ كلَّه, وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: ربُّنا القويُّ -سُبحانه-, لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ, ولا يَمْنَعُه مانِع, وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ رَادٌّ، يَنْفُذُ أَمْرُهُ, وَيَمْضِي قَضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ، فعَّالٌ لِمَا يُريد, لا يقع شيءٌ في هذا العالَمِ؛ من حركةٍ أو سُكون, أو خَفْضٍ أو رَفْع, أو عِزٍّ أو ذُل, أو عطاءٍ أو مَنْع إلاَّ بإذنه, يفعل ما يشاء, ولا يُمانَع ولا يُغالَب, قَهَرَ كلَّ شيءٍ, ودان له كُلُّ شيء, شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ؛ (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز)[الحج: 74].
فاللهُ -تعالى- تامُّ القُوةِ لَا يَسْتوْلِيْ عَلَيهِ عَجْز فِي حَالٍ مِن الأحْوَالِ, نافِذٌ أمْرُه في أيِّ وقتٍ شاء, في أرضه أو سماواته, وهو -تبارك وتعالى- قويٌّ في بطشِه وعِقابه؛ (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة: 21], فما لنا لا تنقطِعُ قلوبُنا إليه؟! وما لنا لا نعتَمِدُ في مَهامِّنا وحاجاتِنا عليه؟! فما أفقرنا إلى قُوَّتِه وغِناه!, لا قُوَّة لنا إلاَّ بِقوَّتِه وتوفيقه -سُبحانه-, ولا حول لنا على اجتناب المعاصي, ودَفْعِ شرور النَّفس إلاَّ به -تبارك وتعالى-.
وَالمَخْلُوْقُ -وإنْ وُصِفَ بِالقُوَّةِ- فَإنَّ قُوَّتَه مُتَنَاهِيَة, وعَنْ بَعْضِ الأمُورِ قَاصِرَة؛ فقد خُلِقَ ضعيفاً, ووُلِدَ ضعيفاً, ويموت ضعيفاً؛ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم: 54].
ولَمَّا نَسِيَ كثيرٌ من العِباد هذه الحقيقة؛ جرَّهم الشيطانُ إلى الاغترار بِقُوَّتِهم, حتى نَسُوا قُوَّةَ الله, فأخذوا يتمادون في غَيِّهم!, وقد قرَّر اللهُ -تبارك وتعالى- أنَّ القوَّةَ جميعاً له, ولكنَّ الكفارَ لا يُدركون ذلك, ولا يعلمونه إلاَّ في يوم القيامة: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[البقرة: 165], فلا رادَّ لقضائه, ولا مُعقِّب لِحُكمه, ولا غالب لأمره, يُعزُّ مَنْ يشاء, ويُذل مَنْ يشاء, يَنْصُرُ مَنْ يشاء, ويَخْذُلُ مَنْ يشاء, فالعزيز مَنْ أعزَّه الله, والذَّليل مَنْ أذلَّه الله, والمنصور مَنْ نصره الله, فسبحان اللهِ المَلِكِ القوِيِّ العزيز.
وكثيراً ما ينسى العِبادُ ضَعْفَهم, ويُبارِزون اللهَ العَدَاءَ, ويُشرِكون به, ويُفسِدون في الأرض, ويتكبَّرون فيها بغير الحق, ولا سيما إذا حباهم اللهُ -تعالى- بالنِّعمة والمُلْكِ والجاهِ والمالِ والولد, وقد حكى اللهُ لنا في كتابه عن أُممٍ عَتَتْ عن أمره ورسلِه, فحاسبها حِساباً شديداً, وعذَّبها عذاباً نُكراً, كما وقع لقوم عاد: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[فصلت: 15].
ولمَّا بلغ التَّحدِّي ذروته, والعصيان قِمَّته وانحلاله؛ أرسل اللهُ عليهم جنداً من جنده: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)[فصلت: 16], سبحان الله العظيم!, اغتروا بقوةِ أبدانهم, وضخامةِ أجسادهم, وعظيمِ بَطْشِهم في البلاد والعِباد؛ فلم تُغنِ عنهم من عذاب الله من شيء؛ (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)[الأحقاف: 25].
وحال المستكبرين على مَرِّ التاريخ, المُغترِّين بِقُوَّتهم حال قوم عاد, تأخُذُهم قُوَّةُ المَلِكِ الجبَّار, وتُحِيط بهم وتُدمِّرهم, وتُدمِّر معاقلَهم وحُصونَهم, ويُصبِحون أثراً بعد عين, وقد قال اللهُ مُخاطباً المشركين الذين واجههم الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-, آمِراً إيَّاهم بالسَّير في الأرض, والنَّظرِ في آثار الغابرين, والاعتبارِ بمصارعهم: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)[غافر: 21].
فعشرات الأُمَمِ كَفَرَتْ بالله ورسله, واغترَّتْ بِقُوَّتِها وشؤونها وعمارتها في الأرض؛ فأخذهم اللهُ أخْذَ عزيزٍ مُقتدر؛ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40].
سبحان الله القوي!, صَبِيٌّ يُهلِك مَلِكاً, وماءٌ يُغرِق قوماً, وبحرٌ يُدمِّر جيشاً, وبَعوضةٌ تُذِلُّ نمروداً, وأرضٌ تبلع قارون, وطيورٌ تطحن أبرهة؛ (فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 52].
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: عندما جاءت جموعُ الأحزاب, فأحاطوا بالمدينة قاصدين اجتثاث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام -رضي الله عنهم-؛ أرسل اللهُ عليهم رِيحاً, وجنوداً لم يروها؛ (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الأحزاب: 25].
وها نحن نُشاهد نُذُرَ اللهِ في خلقه, فَقَلَّ من عامٍّ إلاَّ وتأتينا الأخبارُ مُتحدِّثةً عمَّا يَحِلُّ بالمُستكبرين التائهين الحائرين؛ زلازِلُ هنا وهناك, تجعل الأرضَ تتشقَّق, وتبتلع مَنْ فوقها, وتُطيح بالقُصور والمنازل فوق رؤوس أصحابها, ومَنْ رأى ذلك رأى هولاً شديداً, وعذاباً أليماً؛ (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)[الأنبياء: 11-15], فأين المهربُ من اللهِ القويِّ المَتِين؛ إذا نَزَلَ عذابُه بساحة الظالمين؟!.
عباد الله: لا قُوَّةَ للعبد على طاعة الله إلاَّ بِقُوَّةِ الله -تعالى- وتوفيقه, ولا حول له على اجتناب المعاصي ودَفْعِ شرور النفس إلاَّ بالله -تعالى-, وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ! أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"(رواه البخاري), قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذه الكلمةُ لها تأثيرٌ عَجِيبٌ في مُعالجة الأشغال الصَّعبة، وتَحَمُّلِ المَشاق", فلا حولَ في دَفْعِ شَرٍّ, ولا قُوَّةَ في تحصيل خَيرٍ إلاَّ بالله, ولا حولَ عن معصية الله إلاَّ بِعِصمته, ولا قُوَّةَ على طاعته إلاَّ بمعونتِه.
أخي الكريم: إنَّ الله -تعالى- يُحِبُّ أنْ يراك مُتواضِعاً, ذَاكِراً لقوَّته؛ (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا)[الكهف: 39], ومع محبة الله -تعالى- للمُتواضِعين؛ فهو يُحِبُّ الأقوياءَ من المؤمنين, يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ, وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ"(رواه مسلم), والصِّفَتان اجتمعتا في قوله -تعالى-: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)[المائدة: 54], ولا قُوَّةَ لأُمَّةٍ إلاَّ بالعلم والعمل؛ لأنَّ الله -تعالى- قال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[الأنفال: 60], فَكُنْ -يا عبدَ الله- كما يُريد؛ يَكُنْ لك فوقَ ما تُريد.
يا ربِّ عُدْتُ إلى رِحابِكَ تائِباً | مُسْتَسْلِماً مُسْتَمْسِكاً بِعُراكَا |
مَـالِي ومَا لِلأغْـنِياءِ وأنـتَ يا | ربِّ الغَـنِيُّ ولا يُحَدُّ غِـناكَا |
مَالِي ومَـا لِلأقْوِياءِ وأنــتَ يا | ربِّ ورَبَّ النـاسِ ما أقْـواكَا |