الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ولما طهر الله الأرض من الشرك وأهله, أذن بزوال العذاب, فأمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تُقلعَ عن المطر, فقال -سبحانه-: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ)[هود: 44], وتم أمر الله في القوم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا نزال نجني من قصة نبي الله نوح مع قومه الفوائد والعبر, كما قصها الله علينا في كتابه في أكثر من سورة, وكنا توقفنا في الجمعة قبل الماضية على دعوة نوح لقومه بكل طريقة وبكل سبيل, ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما, فلما استعصوا عليه, استغاث بربه طالبا النصر منه عليهم, كما قال الله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)[القمر: 10]، فعند ذلك أوحى الله -تعالى- إليه: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)[هود: 36], فلا تحزن عليهم ولا يَهُمَّنك أمرهم.
فلما أيس نوح من إيمانهم, وخاف على إيمان الذين معه؛ حيث كانوا يسعون في إفساد من آمن, ويصدون عن سبيل الله, كما قال -تعالى- في سورة نوح: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)[نوح: 27], عند ذا دعا على قومه بالهلاك، ودعا عليهم دعوته التي أخبر الله عنه أنه قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)[نوح: 26].
ثم أمره الله أن يستعد للنجاة من العذاب وذلك بصنع الفلك, يعني: السفينة بمرأى من الله وتأييد, وتعليم في كيفية صناعتها, وحذره من رحمة الظالمين والشفاعة لهم؛ فقد جاء أمر الله الذي لا يرد عن القوم الظالمين؛ (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)[هود: 37].
ولقد اختلفت عبارات المفسرين والمؤرخين في هيئة السفينة وطولها وعرضها, وليس هناك مستند من السنة؛ بل كلها متلقاة عن بني إسرائيل, ولا نشك أن الله -سبحانه- قد بين لنوح كيف يصنع الفلك؟؛ لأنه -سبحانه- قال: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)[هود: 37].
وأخذ نوح -عليه السلام- في صناعة السفينة في أرض صحراء قاحلة لا يوجد بها أنهار ولا بحار!؛ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ)[هود: 38]؛ أي: يَطْنزون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق؛ (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[هود: 38، 39], وعيد شديد، وتهديد أكيد، (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ)؛ أي: يهينه في الدنيا، (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)؛ أي: دائم مستمر أبدا.
واستمر نوح في صناعة السفينة, وهو يرتقب وعد ربه, الذي لا يخلف الميعاد, حتى جهزت السفينة, وقد جعل الله له آية تدله على وقت وقوع العذاب, وعندها يسرع في ركوب السفينة, ومن أمر بإركابهم معه, كما قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)[هود: 40], فكان الموعد نزول الأمطار المتتابعة، والهَتَّان الذي لا يُقْلع ولا يَفتُر، بل هو كما قال -تعالى-: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر:11 -12].
وأما قوله: (وَفَارَ التَّنُّورُ)؛ فعن ابن عباس: "التنور: وجه الأرض، أي: صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار، صارت تفور ماء"، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف.
فحينئذ أمر الله نوحا -عليه السلام-، أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين؛ من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، قيل: وغيرها من النباتات اثنين ذكرا وأنثى؛ (وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)؛ أي: واحمل فيها أهلك، وهم أهل بيته وقرابته, إلا من سبق عليه القول منهم، ممن لم يؤمن بالله، فكان منهم ابنه "يام" الذي انعزل وحده، وامرأة نوح؛ وكانت كافرة بالله ورسوله.
وركب الجميع في السفينة ممن أذن له في الركوب, ولم يبق إلا الكافرون, ممن حقت عليهم كلمة العذاب, وانقسم الناس إلى ناجين وهالكين رأي العين, حتى إن نوحا لما رأى ابنه وهو يولي هاربا وهو الابن الرابع، واسمه "يام" قال له: "يابني اركب معنا"؛ أي: آمن وكن من الناجين, فرفض الابن الكافر دعوة أبيه, و(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ)[هود: 43], فقد اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل؛ لنجّاه ذلك من الغرق, فقال له أبوه نوح -عليه السلام-: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)[هود: 43]؛ أي: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله, وفي حال تبادل الخطاب جرفه الطوفان؛ كما قال -تعالى-: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هود: 43], فلم ينج من عذاب الله أحد, ممن قضى الله عليهم بالهلاك لما وقع العذاب.
ولما طهر الله الأرض من الشرك وأهله, أذن بزوال العذاب, فأمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تُقلعَ عن المطر, فقال -سبحانه-: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ)[هود: 44], وتم أمر الله في القوم الكافرين, وأذن الله بنجاة أهل الإيمان ممن كان يركب مع نوح في السفينة.
فرست السفينة على جبل يقال له: الجودي, قال مجاهد: "وهو جبل بالجزيرة"، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت، وتواضع هو لله -عز وجل- فلم يغرق، وأرست عليه سفينة نوح -عليه السلام-, كما قال -سبحانه-: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[هود: 44], قال قتادة: "استوت عليه شهرا حتى نزلوا منها"، وقال: "قد أبقى الله سفينة نوح -عليه السلام- على الجُودي من أرض الجزيرة؛ عِبرة وآية, حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رمادًا!", كما قال -تعالى-: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)[العنكبوت: 15].
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا, أقول قولي هذا, وأستغفر الله إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لقد أودع الله في قصة نوح -عليه السلام- وقومه عبرة لكل معتبر؛ فمن ذلك:
أن العذاب إذا انعقدت أسبابه فلا راد له, ولا تقبل فيه الشفاعات, كما قال الله لإبراهيم الخليل لما دافع عن قومه, قال له: (يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)[هود: 76].
وفيه: أن الله مع كمال رحمته بخلقه, فإنه لا يرد غضبه على القوم الظالمين, فلو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي؛ "لما نَبَع الماء وصار في السكك, خشِيت أمّ الصبي عليه، وكانت تحبه حبا شديدًا، فخرجت إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه, فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ رقبتها رفعته بيديها فغرقا", رويت هذه القصة عن كعب الأحبار، ومجاهد بن جبر وهي من الإسرائيليات, ورويت مرفوعة ولا تصح.
ولما أرست السفينة بأهلها, ونزل نوح بمن معه من المؤمنين, تذكر ابنه يام, وتذكر أن الله أذن له في نجاة أهله, وأن ابنه من أهله, فطمع في نجاته من الغرق, فقال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)[هود: 45], هذا سؤال استعلام وكشف من نوح -عليه السلام- عن حال ولده الذي غرق؛ (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)؛ أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدُك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟, (قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)[هود: 46]؛ أي: الذين وعدت إنجاءهم؛ لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك؛ ولهذا قال: (وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)[هود: 40]، فكان هذا الولد قد سَبَق عليه القول بالغرق؛ لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا، -عليه السلام-.
فجاء الجواب بما لم يكن على حسبان نوح -عليه السلام-, ويخطئ البعض عندما يقول: إن ابن نوح كان ابن زنى من امرأته الكافرة, وحاشا نوح من أن يتزوج بعاهرة, قال ابن عباس وغير واحد من السلف: "ما زنت امرأة نبي قط", قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه؛ فإن الله -سبحانه- أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة؛ ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-, وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه".
وفي القصة: غيرة الله لأنبيائه, ونصرتهم وإجابة دعوتهم.
وفيها: قدرة الله -جل جلاله-, حيث أغرق الأرض كلها بجند من جنده وهو المطر.
وفيها: فعل السبب, فلو شاء الله لأهلك من في الأرض جميعا بلا سبب من البشر, ولكن الله أراد أن يبين للناس أن فعل الأسباب واجب.
وكان خاتمة هذه القصة أن قال الله لنوح: (قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[هود: 48], فطمأن الله نوحا ومن معه بالنجاة التامة, حين أرست السفينة على الجوديّ، فالسلام عليه، وعلى من معه من المؤمنين، وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب: "دخل في هذا السلام كلُّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة".
اللهم أغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.