الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ومما يدل على الجنة والنار أيضًا ما يعجل الله في الدنيا لأهل طاعته وأهل معصيته؛ فإن الله تعالى يعجِّل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنة ورَوحها ما يجدونه ويشهدونه بقلوبهم مما لا تحيط به عبارة، ولا تحصره إشارة، حتى قال بعضهم: إنه لَتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيِّب. قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم.
الحمد لله الذي جعل في اختلاف فصول السنة دليلاً على عظمته الباهرة، ومذكِّرًا بالدار الآخرة. أحمده سبحانه على رحمته الواسعة، وأسأله الإعانة على حسن طاعته، والاستقامة على أمره، والتزود من الأعمال الصالحة.
ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فهو المعاذ والملاذ وحده، لا ملجأ منه إلا إليه في الملمات والعظائم القاهرة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل ما في الكون يُذَكِّرُ بعظمته، ويشوِّق إلى دار كرامته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: أكل بعضي بعضًا. فأذِن لها بنفَسَيْن: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحَرِّ، وأشد ما تجدون من الزمهرير". أخرجه البخاري ومسلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين روَّضوا أنفسهم وطوَّعوها حتى استقامت على الأمر.
أما بعد: فيا عباد الله! ما رأَى العارفون بالله شيئًا من الدنيا إلا تذكَّروا به ما وعد الله بجنسه في الآخرة، وعلموا أن ذلك دليلٌ يعرِّفُهم بخالقهم -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه- قال الحسن البصري -رحمه الله-: كان الصحابة يقولون: الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقًا دائمًا لا ينصرف لقال الشاكُّ في الله: لو كان لهذا الخلق ربٌّ لحادثه! وإن الله قد حادث بما ترون من الآيات: إنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين، وجعل فيها مَعاشًا وسراجًا وهَّاجًا.
ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين، وجعل فيها سكنًا ونجومًا وقمرًا منيرًا، وإذا شاء بنى بناءً جعل فيه المطر والرعد والبرق والصواعق ما شاء، وإن شاء صرف ذلك الخلق.
وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس، وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحَرِّ يأخذ بالأنفاس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربًا يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة.
وقال خليفة العبدي: ما زال المؤمنون يتفكَّرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيْقَنَتْ قلوبهم، وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤيته؛ ما رأى العرافون شيئًا من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة، من كل خير وعافية، أو خلاف ذلك.
فكل ما في الدنيا يدل على خالقه ويذكر به، ويدل على صفاته، فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه، وفضله وإحسانه، وجوده ولطفه بأهل طاعته؛ وما فيها من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه، وبطشه وقهره، وانتقامه ممن عصاه؛ فنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد محولها ويبسها في الشتاء، وإيناع الأشجار واخضرارها بعد كونها خشبًا يابسًا، يدل على بعث الموتى من الأرض. قال أبو رزين العقيلي للنبي -صلى الله عليه وسلم-: كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خَلقه؟ قال: "هل مررتَ بوادٍ أُهلك محلاً، ثم مررت به يهتز خضِرًا؟" قال: نعم. قال: "كذلك يُخرج الله الموتى، وذلك آيته في خلقه" أخرجه الإمام أحمد. وقِصَرُ مدة الزرع والثمار، وعَوْد الأرض بعد ذلك إلى يبسها، والشجر إلى حالها الأول، كعَود ابن آدم بعد كونه حيًا إلى التراب الذي خلق منه.
و"فصول السنة" تذكِّر بالآخرة، فشدة حَرِّ الصيف يذكر بحَر جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكِّر بزمهرير جهنم، وهو من زمهريرها؛ و"الخريف" يكمل فيه اجتناء الثمرات، وكذلك اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة.
وأما "الربيع" فهو أطيب فصول السنة، وهو يذكِّر بنعيم الجنة وطيب عيشها، وينبغي أن يحث المؤمن على مواصلة الاجتهاد بطلب الجنة بالأعمال الصالحة. وكذلك خَلْقُ بعض البلدان الباردة، والمطاعم والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، وغير ذلك من نعيم الدنيا، يُذَكِّرُ بنعيم الجنة.
كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين والفواكه إلى السوق، فيقف وينظر، ويَعْتَبِر، ويسأل الله الجنة. مرَّ سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم، فسلَّموا عليه، فلما بعُد عنهم بكى واشتد بكاؤه، وقال: ذكَّرني هؤلاء شباب أهل الجنة. تزوج صلةُ بنُ أشيمَ بِمُعاذةَ العَدَوِيَّةِ، وكان من كبار الصالحين، فأدخله ابن أخيه الحمَّام المسخَّنَ بالنار، ثم أدخله على زوجته في بيتٍ مطيَّبٍ مُنَجَّدٍ، فقاما يصليان إلى الصباح. فسأله ابن أخيه عن حاله؟ فقال: أدخلتني بالأمس بيتًا أذكرْتَني به النار- يعني الحمام- وأدخلتني الليلة بيتًا أذكرتني به الجنة، فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح.
خرَّج الطبرانيُّ بإسناده أن رجلاً في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع ثيابه ثم تمرَّغ في الرمضاء وهو يقول لنفسه: ذوقي، (نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) [التّوبَة:81]، جيفةٌ بالليل، بطَّالٌ بالنَّهار؟ فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! غلَبَتْنِي نفسي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد فُتِحت لك أبواب السماء، وباهى الله بك الملائكة".
وكان كثير من السلف يخرجون إلى الحدَّادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد فيبكون، ويتعوَّذون بالله من النار. وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حر الظهيرة يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار؛ فإن الساعة تقوم في يوم الجمعة، ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. قاله ابن مسعود، وتلا قوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) [الفُرقان:24] فينبغي لمن كان في حَرِّ الشمس أن يتذكر حرَّها في الموقف؛ فإن الشمس تدنو من رؤوس الناس يوم القيامة، ويُزاد في حرها، وليس هناك ظِلٌّ إلا بالأعمال الصالحة.
ومما يدل على الجنة والنار أيضًا ما يعجل الله في الدنيا لأهل طاعته وأهل معصيته؛ فإن الله تعالى يعجِّل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنة ورَوحها ما يجدونه ويشهدونه بقلوبهم مما لا تحيط به عبارة، ولا تحصره إشارة، حتى قال بعضهم: إنه لَتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيِّب. قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم.
وقال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النّحل:97]. قال الحسن: نرزقه طاعةً يجد لذتها في قلبه، أهل التقوى في نعيم حيث كانوا: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
وأما أهل المعاصي والإعراضِ عن الله فإنَّ الله يُعجِّل لهم في الدنيا من أنموذج عقوباتِ جهنم ما يعرف أيضًا بالتجربة والذوق، فلا تسأل عمَّا هم فيه من ضيق الصدر، وحرَجه، ونكَده؛ ثم ينتقلون بعد هذه الدار إلى أشدَّ من ذلك وأضيق، ولذلك يضيق على أحدهم قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له بابٌ إلى النار فيأتيه سَمومها، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه:124] ثم بعد ذلك إلى جهنم وضيقها، قال تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفُرقان:13].
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعتبروا بما تشاهدونه على ما غاب عنكم من نعيم أو عذاب، وفي ذلك آيةٌ على وجود الخالق وعظمته، وباعثٌ على الاستمرار على القيام بحقه من مفروض ومندوب.
واعلموا أن النفْس في كثير من الأحيان تحتاج إلى تربية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإسرَاء:12]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يُرجَى من كرمه أن يُحيي القلوب الميتة بالذنوبِ وطولِ الغفلةِ بسماع الذكر النازل من السماء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته، لا من الأنبياء ولا من الصلحاء ولا من يسمونهم بالأولياء.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير خَلق الله من الأولين والآخرين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! لا شكَّ أن الله سبحانه خلَق لعباده دارَيْن يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين من غير موت، وخلَق دارًا معجلة للأعمال، وجعل فيها موتًا وحياة، وابتلى عباده فيها بما أمرهم به ونهاهم عنه، وجعل إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا تشوبه راحة، وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم؛ فما فيها من نعيم يذكِّر بنعيم الجنة، وما فيها من ألم يذكر بألم النار، فاسألوه- يا عباد الله- الجنة، واستعيذوا به من النار.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم شديد الحَرِّ فقال العبد: لا إله إلا الله، ما أشدَّ حرَّ هذا اليوم! اللهم أجِرْني من حَرِّ جهنم. قال الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي قد استجار بي منكِ، وقد أجَرْتُه. وإذا كان يوم شديد البرد فقال العبد: لا إله إلا الله، ما أشدَّ برد هذا اليوم! اللهم أجِرْني من زمهرير جهنم. قال الله لجهنم: إن عبدًا من عبادي قد استجار بي منك فأجَرْتُه".
روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "يُحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قطُّ، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقَى لله سقاه الله، ومن عفا لله أعفاه الله".
وقيل لأبي حازم الزاهد: إنك لتَشَدُّ! -يعني: في العبادة- فقال: وكيف لا أتشدَّد وقد ترصَّد لي أربعةَ عشَرَ عدوًا؟ قيل له: لك خاصة؟ قال: بل لجميع من يعقِل. قيل له: وما هذه الأعداء؟ قال: أما أربعة فمؤمن يحسدني، ومنافق يبغضني، وكافر يقاتلني، وشيطان يغويني ويضلني. وأما العشرة: فالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والعري، والمرض، والفاقة، والهرم، والموت، والنار. ولا أطيقهن إلا بسلاح تام، ولا أجد لهن سلاحًا أفضل من التقوى.
فاتقوا الله عبادَ الله، وحافظوا على أنفسكم من أعدائكم، وجُودوا على فقراء المؤمنين. وعليكم بالقدوة الحسنة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، خير خلق الله بعد النبيين والمرسلين.
إن أحسن الحديث ...