المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
العربية
المؤلف | لافي بن حمود الصاعدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- مع الغيث هو أنه إذا أمطرت السحاب سُرِّيَ عنه هذا الخوف، كما قالت عائشة هذا عنه: "فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه" أخرجه مسلم. بل إنه يفزع إلى المطر يكشف عن ثوبه، كما قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أصابنا مطر ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَحَسَر عن ثوبه حتى أصابه المطر وقال: "إنه حديث عهد بربه" خرّجه مسلم. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها الناس: لقد كان رسولنا -عليه الصلاة والسلام- يتفاعل مع الظواهر الكونية، فله مع كُلٍّ منها هدي، فإذا هاجت الريح كان له هدي، وإذا نزل الغيث كان له معه هدي، وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر كان له هديُ، فحريٌّ بالمسلم أن يكون على علم بهديه؛ ليتسنّى له الاقتداء برسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فالله يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
عباد الله: في هذه الخطبة سنتناول هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الغيث؛ تعليمًا للجاهل، وتذكيرًا للعالم، وتفاؤلاً بنزول الغيث.
أيها المؤمنون، لقد صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يدعو الله مرارًا، ويلحّ عليه أن ينزل الغيث، يدعوه في صور شتّى، ولم يكن يقتصر على صلاة الاستسقاء فحسب، كحالنا نحن ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد في هدي خير العباد: "ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استسقى من وجوه:
الوجه الأول: يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة، وقال: "اللهم أغثنا" ثلاثًا، أخرجه البخاري ومسلم.
الوجه الثاني: وَعَد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلّى، فلما طلعت الشمس خرج متواضعًا مُتَبذّلاً مُتخَشّعًا. وهذه صلاة الاستسقاء المعروفة.
الوجه الثالث: أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى على منبر المدينة استسقاءً مجرّدًا في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الاستسقاء صلاة، خرّجه ابن ماجه.
الوجه الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد، فرفع يديه ودعا الله -عز وجل-، فحُفِظ من دعائه حينئذ: "اللهم اسقنا غيثًا مُغِيثًا مَرِيعًا طَبَقًا عاجلاً غير رائِث نافعًا غير ضار" رواه أبو داود بسندٍ صحيح من حديث جابر بن عبد الله، ومعنى مَرِيعًا: أي ذا خَصَابةٍ ومَرَاعةٍ.
الوجه الخامس: أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزَّوْرَاء وهي خارج باب المسجد، رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
الوجه السادس: أنه -صلى الله عليه وسلم-استسقى في بعض غزواته لمّا سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطشُ، فاستسقى لهم" أهـ.
أيها المسلمون: إذن يُستحبّ لنا أن نهتدي بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وندعو الله بنزول الغيث في شتّى الأوقات التي تُرجى فيها الإجابة، كالدعاء في السجود، وفي وقت السحر، وبين الآذان والإقامة ونحوها.
عباد الله: وكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الغيث ما روته عائشة -رضي الله عنها- حين قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى غَيْمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، إنّ الناس إذا رأوا الغَيْم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة، ما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب وقالوا: هذا عارضٌ مُمطِرُنا" أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وروى مسلم في صحيحه حديثًا عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عَصَفِت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أُرسِلت به، وأعوذ بك من شرها وشرّ ما فيها وشر ما أُرسِلت به"، قالت: وإذا تَخَيَّلَتِ السماء تغيّر لونه، ودخل وخرج، وأقبل وأدبر، فإذا أَمطرت سُرِّيَ عنه، فعرفتْ ذلك عائشة -رضي الله عنها- فسألته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعله -يا عائشة- كما قال قوم عاد: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [الأحقاف:24]". وهذا الفعل -يا عباد الله- منه -صلى الله عليه وسلم- من عدم أمنه من مكر الله، وقد عاب الله قومًا أمنوا مكره، قال سبحانه: (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون) [الأعراف:99]، ومَن فعل هذا الهدي النبوي -أي خاف عند الغيم أو الريح- ربما رماه بعض الناس بالتشاؤم، وهذا من الجهل بالسنّة النبوية، والله المستعان.
أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- مع الغيث هو أنه إذا أمطرت السحاب سُرِّيَ عنه هذا الخوف، كما قالت عائشة هذا عنه: "فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه" أخرجه مسلم.
بل إنه يفزع إلى المطر يكشف عن ثوبه، كما قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أصابنا مطر ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَحَسَر عن ثوبه حتى أصابه المطر وقال: "إنه حديث عهد بربه" خرّجه مسلم. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى المطر قال: "اللهم صَيِّبًا نافعًا" أخرجه مسلم.
أيها الأمّة: وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- مع الغيث أنه إذا كثر وخاف من الضرر على الناس قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومَنابِت الشجر" متفق على صحته بين البخاري ومسلم. والآكام والظِّراب هي الجبال الصغيرة. وتأمّل هذا الدعاء النبوي العظيم حيث خصَّ بقاء المطر في هذه الأماكن؛ لأنها أسهل في الزراعة، وأيسر في الرعي من شواهق الجبال العظيمة التي لا تُنال إلا بالمشقّة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فإن الواجب علينا تجاه نعمة المطر أن ننسبها إلى الله تعالى وحده، لا إلى نجمٍ ولا إلى فصل، فإن هذا من كفران هذه النعمة العظيمة، فعن زيد بن خالد الجهني قال: صلّى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية على إِثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف من صلاته قال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بِنَوْء كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكواكب" رواه مسلم.
ومن تأمّل القرآن حين يتحدث عن تكوّن الغيث يجد أنه ينسب الأفعال إلى الله سبحانه، مثل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) [النور:43].
ولا نكون -أيها الإخوة- ممّن إذا شرح ظاهرة تكوّن المطر لم ينسب الأفعال إليه سبحانه فيقول: الشمس تُبخّر الماء في البحر، ثم تتصاعد الأبخرة، ثم يتكون السحاب، ثم تسوقه الرياح، ولا يذكر الله سبحانه.
أحبّتي في الله: إن من تدبّر الآيات التي تتحدّث عن الغيث يجد أنها في نهايتها تذكر إحياء الله للموتى؛ لأن ظاهرة المطر دليل واضحٌ على إمكانية بعث الله الموتى، قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39]. وقال الله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف:57]، وكثير مثلها في القرآن.
وذلك أنه إذا نُفِخ في الصور النفخةَ الأولى صَعِق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويبقى الناس موتى ما شاء الله. وكل شيء يَبْلَى من ابن آدم إلا عَجْبُ الذَّنَب -وهو آخر فقرة من فقرات الظهر- يبقى تحت الأرض مدفونًا، حتى إذا أراد الله إحياء الموتى أرسل سحابًا يمطر على الأرض أربعين صباحًا كماء الرجال، فينبت الإنسان كما ينبت الزرع، حتى يكتمل نموّه، فينفخ النفخة الثانية فترجع كل روحٍ إلى جسدها، ويقومون من قبورهم، ويصور ابن القيم هذا بأبيات جميلة يقول فيها:
وإذا أراد الله إخــراج الـورَى | بعد الممـات إلى المعـاد الثـاني |
ألقى عـلى الأرض التي هـم تحتها | والله مُـقْتَـدِرٌ وذو سـلطـانِ |
مـطرًا غليظًـا أبيضًـا متتـابعًا | عشرًا وعشرًا بعدهـا عَشْـرانِ |
فتظلّ تنبت منه أجسـام الـورَى | ولحـومهم كمَنـابِت الرَّيحـانِ |
حتى إذا مـا الأمّ حـان وِلادُهـا | وتمخّضت فنِفَـاسُهـا مُتَـدانِ |
أوحى لـها ربّ السمـا فتشقّقت | وبدا الجنينُ كـأكمل الشُّبَّـانِ |
وتخلّت الأمُّ الـولود وأخـرجت | أطفـالـها أنثى ومن ذُكْـرانِ |
عباد الله: صلّوا وسلّموا على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.